مقالات

الكتابة في الطبيعة والثقافة والتكنولوجيا

تاريخ الكتابة ليس تاريخًا يُختَزل بين سن القلم وسطح الورق، وإنما هو رحلة قطعت أشواطها بداخلنا وخارجنا، أفرادًا وجماعات. يستعرض المقال تعقيد ظاهرة الكتابة وأبعادها البيولوجية والثقافية والتكنولوجية، وكيف ساهمت في تطور المجتمعات البشرية على مر التاريخ.

لنسأل سؤالًا يبدو بسيطًا؛ ما الذي يتطلبه الأمر لنكتب شيئًا؟ الإجابة السريعة والبديهية: أن يكون بحوزتك جوالٌ، أو حاسوبٌ تضع يديك على لوحة مفاتيحه وتبدأ في التدوين، أو أن يكون معك قلم وورقة لتخط بيدك ما تريد. 

لنعمِّق من المسألة قليلًا: لنفترض أن لديك هذه الأدوات وأنك طفل أتم لتوه عامًا أو أنك مصاب باضطراب دماغي يحول بينك وبين فهم الكلام أو إنتاجه، فهل سيكون بمقدورك أن تكتب شيئًا؟ 

ماذا لو أنك إنسان ناضج عقليًّا وسليم دماغيًّا لكنك لم تتلق تعليمًا يؤهلك للقراءة والكتابة؟ وماذا لو اجتمع فيك النضج العقلي والسلامة الدماغية وكانت لديك معرفة بالقراءة والكتابة لكنك تفتقر إلى أي أداة للكتابة؟ 

إن الإجابة على هذه الأسئلة تبيِّن لنا مدى تعقد ظاهرة الكتابة. ويمكننا الآن تجريد هذه المسألة في ثلاث دوائر أساسية صَنع التَّداخلُ بينها تاريخَ الكتابة ومن ثم القراءة، وهي؛ دائرة الطبيعة، ودائرة الثقافة، ودائرة التكنولوجيا. 

إن الكتابة اختراع حديث للغاية، لم يعرفه الإنسان خلال السواد الأعظم من تاريخه على الأرض، فلم تظهر الكتابة سوى قبل خمسة آلاف عام فحسب، مع بضع محاولات بدائية متناثرة هنا وهناك سبقت تلك البداية.

يؤرخ العلماء لظهور الكتابة ما بين أعوام 3400 و3200 قبل الميلاد مع المصريين القدماء والسوماريين. ويشير تأخر اللحظة التاريخية لظهور الكتابة إلى هذا الحد إلى تعقد هذه الظاهرة واعتمادها على تطور واشتباك الدوائر الثلاث التي ذكرناها. ونتناول فيما يلي استعراضًا موجزًا لهذا التطور في ظل هذه الدوائر الثلاث.

الكتابة والطبيعة

تعتمد الكتابة على اللغة، وتعتمد اللغة بدورها على التواصل بوصفه مفهومًا أعم وأشمل. ربما باستطاعة الحيوانات أن تتواصل بالأصوات والروائح والحركات. فمثلًا؛ تصدر الكلاب أصوات النُّباح والعُواء للتعبير عن القلق أو السعادة، فيما تترك روائحها في الأماكن لأغراض تواصلية متعددة، مثل؛ تحديد موقعها، أو إيصال رسالة بسيطرتها على منطقة ما، أو البحث عن شريك جنسي. وتتعقد أساليب التواصل بين الحيوانات كلما تعقد سلوكها الاجتماعي.

لكن مستوى التواصل عند الإنسان هو الأعقد من بين كافة الكائنات الحية. ويتميز تعقُّد هذا التواصل ببلوغه المستوى الرمزي؛ مستوى من التواصل يستخدمه البشر للتعبير عن الأفكار والمفاهيم المجردة. على سبيل المثال، يستخدم البشر اللغة للتواصل بعضهم مع بعض حول أشياء مثل الحب والعدالة والفلسفة.

حين يولد الإنسان يكون لديه استعداد طبيعي لفهم اللغة، ومن ثم إنتاجها بصورة تلقائية في مرحلة لاحقة من نموه؛ حيث يميِّز الطفل بين أصوات الأقرباء والغرباء في سن مبكرة للغاية، ومع بلوغه من أربعة إلى ستة أشهر تصدر عنه أصوات الغرغرة والهمهمة وغيرها. وما أن يبلغ عامه الأول حتى يبدأ في إصدار مقاطع صوتية أطول نسبيًّا، ثم تظهر الكلمات بعد ذلك شيئًا فشيئًا متناثرة لا يربطها رابط، وتدريجيًّا يكتمل بناء النظام المنطقي للغة، فتظهر الجمل الكاملة السليمة في نحوها نسبيًّا بحلول سن الرابعة.

هذا الاستعداد التلقائي والطبيعي للإنسان في اكتساب اللغة، الذي لا يستوجب سوى حد أدنى من تحقق الشرط الاجتماعي بوجود الطفل في بيئة اجتماعية وثقافية ما، يغيب تمامًا عندما يتعلق الأمر بالقراءة والكتابة؛ إذ يتطلب إتقان القراءة والكتابة عملية تعليمية طويلة وتدريبًا عمليًّا مكثفًا يستمر سنوات كي يصبح بمقدور الطفل اكتساب تلك القدرة. فلا أحد يتعلم القراءة والكتابة بحد أدنى من المجهود، وفي غياب بيئة تعليمية توجيهية مباشرة، فالأطفال لا تكتسب مهارة الكتابة تلقائيًّا كما هي حال اكتسابها مهارة اللغة. 

في الوقت نفسه قد لا يكون باستطاعة إنسان لديه استعداد طبيعي لفهم اللغة والتحدث بها أن يتعلم القراءة والكتابة رغم توافر بيئة اجتماعية داعمة لذلك، فقد تؤدي اضطرابات أو حبسات دماغية إلى الحيلولة دون ذلك أو على الأقل إلى صعوبات في تعلمها.

وهناك العديد من الاضطرابات الدماغية التي تتسبب في هذا التعثُّر، منها؛ ما يُعرف باضطراب عُسر القراءة Dyslexia، وهو اضطراب في التَّعلم يؤثر على قدرة الشخص على قراءة وفهم النصوص. ويتضمن عسر القراءة مجموعة من المشكلات التي تشمل؛ صعوبة فك رموز الكلمات، وفهم ما يُقرأ، وتذكر ما قُرئ. ويعاني الأشخاص المصابون بعسر القراءة من صعوبة في ربط الأصوات بالحروف، مما يجعل فك رموز الكلمات مسألة صعبة.

وهناك أيضًا ما يعرف باضطراب عُسر الكتابة Dysgraphia، وهو اضطراب في التَّعلم يؤثر على قدرة الشخص على الكتابة. ويمكن أن تتراوح الأعراض من صعوبة في رسم الحروف والكلمات إلى صعوبة في تنسيق الجمل. وغالبًا ما يكون عُسر الكتابة مصحوبًا باضطرابات تعليمية أخرى مثل عُسر القراءة أو اضطراب نقص الانتباه.

وهناك أيضًا إصابات دماغية تلحق ضررًا بأشخاص تمتعوا بقدرة مسبقة على الكتابة، مثل الإصابة بالعجز عن الكتابة Agraphia، التي تكون مصحوبة عادة بشلل في الذراع اليمنى، وعجز كامل عن استبدال اليسرى بها رغم سلامتها. 

الآن لنسأل سؤالًا معكوسًا، هل للقراءة والكتابة تأثير طبيعي على الدماغ أم أن تأثيرهما يقتصر فقط على التأثير الثقافي أو الجانب العقلي المجرد في الدماغ؟ 

يميل طيف من الدراسات العصبية والأنثروبولوجية الحديثة إلى وجود قرائن على وجود هذا التأثير المعكوس بالفعل. إذ يمكن أن يتلف الجزء الخاص بالكلام في الدماغ من دون تلف الجزء الخاص بالقراءة، ويمكن أن يتلف الجزء الخاص بالكتابة دون تلف الجزء الخاص بالقراءة. وهذا يدل على أن هذه الأجزاء منفصلة في الدماغ، وأن كلًّا منها يتمتع بمعمار عصبي خاص، وبالتالي فإن لدى الأشخاص غير المتمتعين بمهارة القراءة والكتابة معمارًا دماغيًّا يختلف عن غيرهم ممن يجيدون هذه المهارة، نظرًا لغياب الظروف التي من شأنها أن تحفز المناطق الخاصة بتلك المهارة في الدماغ. وهذا يعني أن الدماغ يتأثر فسيولوجيًّا بالجانب الثقافي.

يتحدث عالم النفس والأنثروبولوجيا العصبية الكندي ميرلن دونالد Merlin Donald عما يسميه بالإكسوجرامز exograms، وهي وحدات خارجية يمكن أن توجد في الدماغ نظريًّا، حيث يعيد بموجبها عمارة نفسه بواسطة ما هو خارجي. وهي نقيض ما يسميه بالإنجرامز engrams وهي وحدة داخلية مادية تستخدمها الكائنات الحية في بناء الذاكرة.

فإذا كانت الوحدات الداخلية محدودة من حيث طبيعتها، فإن الوحدات الخارجية لا متناهية. والوحدات الخارجية هي ما يمكنك من كتابة أفكارك خارجك، أي أن تعكس ذاتك في شيء غير ذاتك. وهذا ما يسمى التفكير الانعكاسي Reflective Thought، أو التفكير من الدرجة الثانية Second Order Thinking، الذي حقق طفرته الكبيرة مع ظهور الكتابة قبل خمسة آلاف عام. عند هذه النقطة ننتقل من الطبيعة إلى الثقافة، حيث نناقش العلاقة التفاعلية بين الكتابة والثقافة.

الكتابة والثقافة

لا تستلزم الثقافة البشرية وجود الكتابة بالضرورة. فكما رأينا، لم يكن ظهور الكتابة سوى حدث متأخر في تاريخ البشرية. فقد غابت الكتابة عن العديد من المجتمعات التاريخية، كمجتمعات الصيد وجمع الثمار، والمجتمعات الزراعية القديمة، ولا تزال تغيب عن بعض المجتمعات القبلية المعاصرة، التي تقوم على الثقافة الشفوية بالأساس. 

لم تظهر الكتابة فجأة وإنما تطورت تدريجيًّا من داخل الثقافة، وتحديدًا من رحم مجال ثقافي آخر، هو الفن. فما يجمع بين الفن والكتابة هو أن كليهما وسيلة تعبيرية لنقل الأفكار والمشاعر من خلال عناصر بصرية ورمزية.

كانت الحروف الأولى أقرب إلى الأيقونات التي يتشابه فيها الدال والمدلول من حيث الشكل، فكانت أقرب إلى التعبير البصري منها إلى النظام الرمزي، ولم ترقَ أنظمتها إلى درجة التشفير التي تتمتع بها اليوم، فعلى سبيل المثال كانت أبجدية الكنعانية المبكرة تشير إلى حيوان «الثور» برسم رأس الثور، ثم تحقق التشفير شيئًا فشيئًا بتجرد هذا الدال من تعقيده الفني إلى علامة بسيطة يُفهم منها هذا الارتباط ضمنًا.

واختلفت أشكال التجريد للعلامات اللغوية باختلاف المسارات التاريخية للمجتمعات، فظهرت العديد من أنظمة الكتابة، مثل:

  • الأنظمة الألفبائية: وهي الأنظمة التي يرتبط فيها كل حرف بصوت فريد، سواء كان ساكنًا أم متحركًا، مثل اليونانية القديمة، واللاتينية، والإنجليزية المعاصرة، والفرنسية، والروسية.
  • الأنظمة الأبجدية: (أو الألفبائية الساكنة)، وهو نظام يماثل النظام الألفبائي في علاقة الحروف بالأصوات، باستثناء أنه يقوم بالأساس على الحروف الساكنة، ويتغير نطق الحرف اعتمادًا على السياق الذي ورد فيه (مثلما يتغير نطق الحرف في العربية بالضم والفتح والكسر والسكون والشد).
  • الأنظمة المقطعية: التي يشير فيها الرمز إلى مقطع صوتي كامل (يضم صوتًا ساكنًا إلى جانب آخر متحرك) بدلًا من أن يقتصر على صوت مفرد، مثلما هو الحال في لغة الكاتاكانا اليابانية.
  • الأنظمة التصويرية: التي يشير فيها الرمز إلى مقطع صوتي أو كلمة أو حتى فكرة بعينها، مثل اللغة الصينية وبعض اللغات القديمة المندثرة كالهيروغليفية والمسمارية.

يؤرخ العلماء لمفهوم الحضارة باكتشاف الإنسان للكتابة، حيث كانت بمثابة رافعة ثقافية انتقلت بها المجتمعات البشرية من مستوى إلى آخر أكثر تعقيدًا وتركيبًا؛ حيث ساهمت في تطوير مختلف النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات.

ظهرت الكتابة في البداية لأغراض عملية بيروقراطية، فلم تكن سوى أكثر من حرفة يتقنها أقلية من أجل تدوين وتنظيم المعاملات التجارية والحسابية، وما لبثت أن تحولت إلى أداة سياسية تدوِّن بها السلطة دساتير وقوانين المجتمعات التي تحكمها، وتوثق بها الأساطير والمعتقدات، وتخلد بها ذكرى الانتصارات الحربية تجاه الخصوم والأعداء.

لاحقًا تطور استخدام الكتابة للأغراض التأملية والفكرية والأدبية، فنشأ ما يسميه دونالد بالثقافة النظرية Theortic Culture، وهي ثقافة أقلية، لكنها ثقافة حاكمة، أدارت الاقتصاد والسياسة والحروب ونظمت المجتمعات الكبيرة. 

خلقت الكتابة بهذا المعنى عالمًا ثلاثي الأبعاد، حيث أفسحت المجال واسعًا لتخزين الذاكرة والأفكار بطريقة متصلة وقابلة للمراكمة ومستقلة عن وجودنا. لعبت الكتابة دورًا كبيرًا في تعزيز مفهوم المشترك العقلي أو «المتخيل المشترك» كما يسميه تشارلز تايلور، حيث اكتسبت الثقافة أبعادًا تجريدية مكنتها من العمل داخل تشكيلات اجتماعية أوسع وأكبر، فظهرت الدول القديمة والإمبراطوريات لتحل محل القبائل والجماعات.

وقد وسعت اختراعات مثل: الكتاب المطبوع – الصحافة – التلفزيون – الإنترنت – وسائل التواصل الاجتماعي، من نطاق تأثير الكتابة علينا من حيث عدد العقول التي تتشارك الأحداث والأفكار. وهذا ما ينقلنا للقسم الثالث والأخير من هذه المقالة، وهو دائرة التكنولوجيا.

الكتابة والتكنولوجيا

شهدت العديد من البقاع الجغرافية المتناثرة في أفريقيا وأوروبا وآسيا محاولات أولية للكتابة، لكن أول محاولة منتظمة ومتراكمة ومرتبطة بالنشاط الحضاري نشأت في سومر ومصر القديمة. كانت الصخور والأحجار أداة الأنسان الأولى في الكتابة، وكان المكتوب أشبه بالنصب التذكاري لشدة ارتباطه بالمكان. وقد طور البشر لاحقًا أدوات أخرى أسهل في الكتابة، وأخف في الحمل والنقل، ورغم أن الكتابة اقتصرت قديمًا في العموم على فئة محدودة، إلا أن تطويرها قد وسع من نطاق هذه الفئة تدريجيًّا.

استخدم السومريون الرُّقم (الألواح) الطينية، ودوَّنوا عليها معاملاتهم التجارية والحسابية اليومية، كما دونوا عليها أعمالهم الأدبية كـ«ملحمة جلجامش»، التي تعد أقدم ملحمة أدبية في التاريخ الإنساني. وبمرور الوقت طور الإنسان وسائط تكنولوجية أخرى للكتابة سهلت عملية نقل المعرفة والتعامل معها، فاستعمل عظام الحيوانات وجلودها وكذلك لحاء الشجر. وطور قدماء المصريين أوراقًا من لب نبات البردي، المعروف عند الإغريق باسم pápūros وهي الكلمة التي اشتقت منها كلمة ورق Paper في الإنجليزية المعاصرة. كذلك طور الصينيون القدماء صناعة الأوراق المرنة والملساء التي نقلها العرب عنهم، وطوروها لتستخدم فيما بعد على نطاق واسع في مختلف الحضارات.

لعبت تكنولوجيا ترتيب المادة المكتوبة وتخزينها دورًا كبيرًا في تطور المعرفة البشرية. فقد كانت أوراق الكتب لدى الإغريق وقدماء المصريين والصينيين في العهود القديمة تُخزن على صورة لفائف (أو ما يُسمى في التراث العربي باسم «الطومار»)، وهو عبارة عن فرخ طولي من الورق ملفوف بإحكام حول نفسه، ويُبْسَط من أجل قراءته.

وربما يصعب تخيُّل أن ما كتبه أفلاطون أو أرسطو كان عبارة عن مجموعة من اللفائف الموضوعة جنبًا إلى جنب، والتي أنتجت في مجملها كتاب «الجمهورية» أو «السياسة»، لكن هذه هي الحقيقة. وقد تطور هذا الشكل البدائي لترتيب المحتوى في العصر الروماني، حيث ظهر ما نسميه بالمجلد أو ما يُعرف باسم Codex، وهو الشكل الذي استقر عليه الكتاب كما نعرفه اليوم، حيث توضع الأوراق بعضها تحت بعض بالترتيب ويثبت أحد أضلاعها الجانبية، فيما تبقى الأضلاع الثلاثة الأخرى حرة للتصفح والتنقل السريع بين الورق. ويُقال إن ما حفز هذا الابتكار على الظهور هي المناظرات الدينية بين المسيحيين والوثنيين، حيث كان المتناظرون بحاجة إلى تسهيل عملية استرجاع المعلومات واختصار الوقت في ذلك. 

ومع ظهور الطباعة تغير المشهد كليًّا، ولعبت الكتابة دورًا جذريًّا في ظهور التشكيلات الاجتماعية والسياسية الحديثة، حيث انتشرت الكتابة في كل مكان، وصارت الكتب والمطبوعات في متناول الجميع، وتحولت المعرفة من نشاط نخبوي إلى نشاط اجتماعي، وزاد عدد المتعلمين والعارفين بالقراءة والكتابة بصورة غير مسبوقة.

كانت الطباعة بمثابة «المفتاح في توليد أفكار التزامن الجديد» بتعبير بندكت أندرسون، حيث أمكن لأول مرة في التاريخ وصول المعرفة نفسها لأعداد غفيرة من الناس في الوقت نفسه. وقد تركت هذه التغيرات أثرها العميق على علاقة المجتمعات بالسلطة الدينية والسياسية. فمثلًا دعمت الطباعة الثورة البروتستانتية في المجتمعات المحلية الأوروبية، فكسرت احتكار السلطة الكاثوليكية لفهم النصوص الدينية في الكتاب المقدس من خلال نشر أعداد كبيرة من الأناجيل باللغات المحلية بدلًا من اللاتينية التي احتكر رجال الدين المسيحي فهمها. واعتمدت البيانات الاحتجاجية لمارتن لوثر والبروتستانت في ألمانيا على الطباعة بشكل كبير.

وفي وقت لاحق ومع تطور الثورة الصناعية عززت طباعة الجرائد من الهيمنة الأيدولوجية للدول القومية، وخلقت ما يُعرف بالثقافة القومية وهي نوع من الثقافة الجمعية يفترض وعيًا متماسكًا لدى الجماعة المحكومة نتيجة لمرورها بتاريخ متخيل مشترك. 

اليوم نعاصر تكنولوجيا غيرت كليًّا من طريقة تعاملنا مع الكتابة، حيث وصلت إلى مستوى من الانتشار والتفاعل والسرعة لم يشهد تاريخ البشرية له مثيلًا. وتراجع الاعتماد على الورقة والقلم بصورة كبيرة، وأصبحت لوحة مفاتيح الجوال أو الحاسوب أو الجهاز اللوحي الأداة الأساسية للكتابة، إضافة إلى ظهور تقنيات أخرى أسهل وأسرع؛ مثل خاصية التحويل الآلي للكلام المنطوق إلى نص مكتوب Speech-to-text.

لم يعد الإنسان يكتب فقط للإنسان، بل صار يكتب أيضًا للآلة بلغات البرمجة، وأصبحت الآلة نفسها بمرور الوقت تكتب للإنسان بلغته الطبيعية مثلما أظهرت النماذج اللغوية التوليدية للذكاء الاصطناعي مؤخرًا. وسيعتمد مستقبل الكتابة على التعاون المشترك بين الإنسان والآلة.

في النهاية؛ يمكن القول إن تاريخ الكتابة ليس تاريخًا يُختَزل بين سن القلم وسطح الورق، وإنما هو رحلة قطعت أشواطها بداخلنا وخارجنا، أفرادًا وجماعات. رحلة توحدها قواعدنا البيولوجية، وتثريها تفريعاتنا الثقافية، ويطورها تقدمنا التكنولوجي. باختصار؛ ونظرًا لأن الكتابة ظاهرة معقدة، فهي تتطلب إن أردنا أن نفهم وجودها أو نفسره، إلمامًا بهذا التعقيد تتكامل فيه المجهودات النظرية للعديد من الفروع العلمية. 

المراجع:

  • جارد دايموند، أسلحة وجراثيم وفولاذ: مصائر المجتمعات البشرية، ترجمة: مازن حماد، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • بندكت أندرسون، الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها، ترجمة: ثائر ديب، دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2009.
  • Donald, Merlin. (1993). Origins of the Modern Mind: Three Stages in The Evolution of Culture and Cognition. Harvard University Press

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *