مراجعات

مراجعة كتاب «غربًا برفقة الليل»

"هل قرأتَ كِتاب غربًا برفقةِ الليل لِـ بِرِل ماركَم؟ لقد تفنّنَت الكاتبةُ فيهِ وأبهَرَتني، حتّى أنّي بِتُّ خزيانَ من نفسي بصِفَتي كاتبًا! وصِرتُ أحسُّ أنّني لا أعدو كَوني مُجرّدَ نجّارِ كلماتٍ مُتواضِع، بينما تلكَ الفتاة – التي سمِعتُ أنّها نزقة الطّبع – أُستاذةٌ تفوقُنا معشَرَ الكُتّابِ براعة. إنَّ كِتابَها بحقٍّ تُحفةٌ أدبيّةٌ خالِصة!" - إرنست هيمنجواي.

تسحر القارة السوداء لُبَّ زائريها، فيمسُّهم قدرٌ من الجنون الذي يُعيد العالم إلى سيرته الأولى، وقد يُنفق بعضهم عمرًا بين أدغالها ليستكشف الطبيعة التي حجبَتْها الحضارة الحديثة، ويكتشف ذاته التي ما كان لها أن تُضيء لولا توطينها هذه الأرض البِكر. هكذا وجدت بِرِل ماركم نفسها في قلب أفريقيا التي عشقتها حدَّ الهُيام، فأنفقت في دروبها سنوات الطفولة والصبا والشباب، وراحت تخوض غمار مغامرات الصيد في فيافيها، وتطوي أرضها بحوافر الخيول، وتمخر عباب سمائها بأجنحة الطائرات.

في هذا الكتاب «غربًا برفقة الليل» الصادر عن دار ترياق عام 2021، تأليف بِرِل ماركم، وترجمة عماد العتيلي، تمتزج سيرة الإنسان بسيرة المكان، يُدثرهما ثوب الطبيعة المغزول على منوال الشمس. فنجد المؤلفة تُدبِّج سيرتها في شرق أفريقيا البريطاني بعفوية جامحة، مُطلِقةً العنان لقلمها ليُبحر في الذاكرة باحثًا عمَّا استقر في قاعها من أحداثٍ ومشاهد وأشخاص، فجاءت السيرة في صورة ومضات من الذاكرة، تُضيء كلُّ ومضةٍ منها جزءًا بعينه، وباجتماع الومضات تكتمل الصورة «صورة بِرل وأفريقيا».

أفريقيا في عيون بِرِل

تقدم بِرل في سيرتها صورة بانورامية عن أفريقيا، تعج بالتفاصيل الدقيقة التي لا يُلمُّ بها سوى أبناء القارة، لكنها تستوعبها وتسردها جميعًا؛ فتُقدِّم وصفًا بليغًا للطبيعة الأفريقية بأدغالها وأحراشها وسهولها وحيواناتها، وتُسهب في الحديث عن سهول سرنغتي، والحُمُر الوحشية، والأسود، والخنازير البرية. وفي الوقت نفسه تراقب عن كثب التقدم الذي تشهده نيروبي، وتحوُّلها من مجموعة أكواخ حديدية إلى مدينة كبيرة تكتظ بالفنادق والمكاتب الحكومية والكنائس.

وتلج بنا بِرِل في أعماق المجتمع الأفريقي؛ فتُطلعنا على عاداته وتقاليده، وطقوس الرقص والأغاني الأفريقية، وختان الذكور الذي يُمثل دلالة مهمة في المجتمع الأفريقي؛ حيث ينتقل الفتى من مرحلة الصبا إلى مرحلة الرجولة، ويُسنَد إليه مهام الرجال، ويُصبح مؤهلًا لحمل السلاح. وتُلقي الضوء على القبائل الأفريقية المنتشرة في شرق أفريقيا مثل: الماسا وكِكُويو وكافِروندو وناندي، والسمات التي تُميز كل قبيلة عن سواها، والصراعات التي تنشب بينهم من حين إلى آخر.

ولا يفوتها أن تُلقي بظلال قلمها على الحملات التبشيرية التي حققت نجاحًا ملموسًا في تحويل بعض أبناء القارة إلى المسيحية، وعلى الاستعمار الأوروبي مؤكدةً أن الغزاة لم يتجاوزوا الأطراف الأفريقية، ولم ينجحوا في الولوج إلى عمق القارة وروحها الحية التي تنفجر دائمًا في وجه المُحتَل، وهي روحٌ لفرط بساطتها تبدو في نظر الحضارة الغربية منعدمة.

الطفولة ومغامرات الصيد

تحكي «بِرِل» في كتابها عن طفولتها في مستعمرة شرق أفريقيا البريطاني؛ إذ قدِمَت إليها في سن الرابعة برفقة أبيها، وأقامت في مزرعته وشاركته أعماله وخاصة تربية الحيوانات، وأنشأت علاقة وطيدة مع «كِبي» أحد أبناء القارة، فقضت برفقته معظم طفولتها، وكان نافذتها على عالم أفريقيا الفسيح، ومدربها الأول الذي ساعدها على إتقان مهارة القفز، والصيد بالقوس والسهم.

وسرعان ما اندمجت بِرِل في الحياة الأفريقية، واكتسبت مهارة قنص الحيوانات البرية، وبرعت فيها؛ وخاضت الكثير من المغامرات التي ترويها في الكتاب بإسهاب شديد، فنتعرف من خلالها على سماتها الشخصية، وخاصة حدة الذكاء والمثابرة وسمو الأخلاق؛ فلم تتوان عن نجدة صديقٍ عالقٍ مع خنزيرٍ برِّي أو فيل يكاد يطبق على أنفاسه، حتى وإن كلَّفها الأمر حياتها.

وتروي لنا عن الطقوس المقدسة التي يؤديها الأفارقة قُبيل الخروج إلى الصيد، وتضع أيدينا على سر مهارتها في الصيد قائلة: «لا أحد يمكنه اصطياد حيوانٍ برمحٍ ما لم يكن عارفًا بأسلوب حياته، فلا بُدَّ أن يعرف الصياد ما يحب الحيوان وما يخاف، والدروب التي يعمرها، ولا بد أن يعرف مدى سرعة الحيوان وجسارته؛ لأن الحيوان سيدرسك جيدًا مثلما تدرسه، وربما يستغل جهلك به ضدك».

وقد شهدت بِرِل في طفولتها أحداث الحرب العالمية الأولى؛ فأشارت إلى أصداء تلك الحرب في شرق أفريقيا البريطاني، ومشاركة السكان الأصليين والمستوطنين من الجنسيات كافة بجانب بريطانيا.

الولع بالخيول

تصف بِرِل علاقتها بالخيول قائلةً: «باتت الخيول جزءًا أصيلًا في حياتي، حتى أنني أتذكرها أكثر مما أتذكر أعياد ميلادي. فتراني أُقسِّم مراحل طفولتي على عدد الخيول، فأربط كل مرحلة بالحصان الذي كنت أرعاه حينئذ، أو كان والدي يرعاه». وهو ما نلمسه في ثنايا الكتاب؛ إذ تفرد مساحة كبيرة للحديث عن تجربتها مع الخيول مذ كانت ترعاها في مزرعة أبيها، وما تتذكره عن أبرز الخيول التي اعتنت بها سواء في المزرعة، أم أثناء عملها في تدريب خيول السباق.

فتحكي عن الحصان «كامسيسكان»، الذي جاء إلى مزرعة أبيها قادمًا من إنجلترا ووصفته بالملك المنفي، وعن «كوكت» المهرة الإثيوبية الشقراء الناصعة البياض، التي أنجبت لـبِرِل حصانها الأثير الذي أطلقت عليه اسم «بغاسوس»، استنادًا إلى أسطورة قديمة عن حصانٍ مُجنَّحٍ حمل الاسم نفسه، وعاش في قديم الزمان.

وتحكي بِرِل أيضًا عن ظروف دخولها مضمار تدريب خيول السباق؛ إذ أدت خسارة أبيها مزرعته إلى هجرته إلى أمريكا اللاتينية، مُخيِّرًا إياها بين الهجرة معه والبقاء في أفريقيا، ولأن بِرِل عاشقةً لأفريقيا؛ فقد قررت البقاء فيها، ونصحها أبوها بالذهاب إلى مدينة مولو، حيث يوجد الكثير من ملاك الخيول والإسطبلات، ويمكنها العمل لديهم. وبالفعل شدَّت بِرل الرحال برفقة حصانها بغاسوس إلى مولو، واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تحفر اسمها وسط أهم مُدربي الخيول الأصيلة في أفريقيا، وتخوض سباقات ضارية فازت في جُلها.

التحليق في السماء

في ذروة انغماسها بتدريب الخيول، تفتَّقت السماء عن ميدان جديد خاضته بِرِل بكامل شغفها، هو ميدان الطيران؛ فتحكي عن لقائها بـ«توم بلانك» الذي فتح لها آفاق السماء، وعلَّمها أساسيات الطيران، حتى استطاعت خلال فترة وجيزة احتراف قيادة الطائرات، واستخرجت -بعد ثمانية عشر شهرًا فقط- رخصة الطيران الثانية التي تُعد بمثابة الميثاق الأعظم للطيَّار.

وعلى مدار الكتاب تسرد الكثير من رحلاتها بالطائرات؛ فتستهل الكتاب برحلتها إلى ننغوي من أجل إيصال أنبوبة أُكسجين إلى أحد منقبي الذهب الأوروبيين، الذي أُصيب أثناء عمله بحمى الماء الأسود، كما تحكي عن رحلتها لإنقاذ صديقها «وودي» الذي يشاركها عشق أفريقيا، ورحلاتها برفقة صيادي الفيلة مستقلين الطائرة للوصول إلى فيافي أفريقيا.

وتنقل لنا خبرتها في الطيران في سماء أفريقيا في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فتصف الطرق التي تسير فيها بطائراتها بأنها ضيقة ووعرة، وتضيق أكثر في الأراضي المرصعة بالتلال، بينما تختفي كليًّا في السهول. وتُشير إلى أنواع الطائرات الشائعة آنذاك، وتؤكد على أهمية الأدخنة المتصاعدة؛ إذ تُعدُّ منارات ودلائل وإشارات بشرية وعلامة على الحياة.

وتقول عن الخرائط إنها: «دليل ائتمان الإنسان أخاه الإنسان، ورمز ثقة واطمئنان، وليست مجرد ورقة محبرة ببضع كلمات. ولو أن للخريطة لسانًا لقالت: اقرأني بعناية، واتبع تعليماتي بدقة، ولا تخف، ولا ترتَب بشأني. ولقالت أيضًا: أنا الأرض في راحتيك، وأنت من غيري وحيدٌ تائه!».

غربًا برفقة الليل

في عام 1935 داعبت فكرة السفر إلى إنجلترا مخيلة «بِرِل»، وعلى الفور قررت السفر برفقة صديقها «بلكس»؛ فتسرد كيف اجتازت سماء السودان ومصر وليبيا وتونس، وتتوقف في حديثها عن القاهرة التي أقامت فيها لمدة أسبوع، لتحكي عن لقائها بـالسيد عبد الله مسؤول مكتب الجمارك في مطار القاهرة، الذي على حد قولها «كان مسؤولًا في مكتب عالم الغيب أيضًا! إذ إنه كان عرَّافًا ماهرًا». فقد قال لها: «سوف تُحلق السيدة فوق بحرٍ عظيم، وتجوزه إلى بلدٍ غريب.. وسوف تجوزه وحدها».

وبعد عدة أشهر تتحقق نبوءة السيد عبد الله؛ إذ تُقرر بِرل في أثناء إقامتها في لندن، السفر إلى الولايات المتحدة لاستكشاف العالم الجديد، قاطعةً مسافة ثلاثة آلاف وستمائة ميل وحدها، وتروي لنا عن الإعداد لتلك الرحلة، وعن طائرة النورس التي أُعدت خصيصى لتُحلق بها فوق مياه الأطلسي، وشعورها قبيل التحليق، والساعات الطوال التي قضتها في قمرة الطائرة مغرِّبة وحدها برفقة الليل، والمشاعر المتضاربة التي انتابتها وأحوال الطقس، وهبوطها في جزيرة كيب بريتون بدلًا من مطار سيدني، ثم هبوطها في اليوم التالي في مدرج فلوريد بِنِت، بطائرة أخرى غير النورس، حيث كان في استقبالها حشدٌ من الناس والصحفيين الذين جاءوا لتحيتها ونقل خبر رحلة أول امرأة تجتاز الأطلسي وحدها برفقة الليل.

السيرة في عيون قرائها

كانت «بِرِل» عين الغرب على أفريقيا، وهي عين عاشقة ليست مُؤدلجة تكتب وفق هوى الاستشراق الغربي، فكانت خير قلم ينقل صورة هذه القارة الموغلة في القدم والحضارة. لذا ليس غريبًا أن يُراسل الكاتب الأمريكي «إرنست همنجواي» الناشر الأمريكي ماكسويل بيركنز في عام 1942 ليُخبره بمدى انبهاره بالكتاب، قائلًا: «لقد تفننت الكاتبة فيه وأبهرتني، حتى أني بِتُّ أشعر بالخزي من نفسي بصفتي كاتبًا!». كما احتفت بها المجلات والصحف الأمريكية؛ فوصفتها مجلة النيوزويك بأنها «أعظم كتب المغامرات في كل العصور»، وقالت عنها صحيفة النيويورك تايمز «الكتاب الذي يجعلك تعتقد أن البشر يمكنهم فعل أي شيء».

أما عن النسخة العربية؛ فقد استطاع المترجم الكويتي «عماد العتيلي» أن يُضاهي في ترجمته النص الأصلي بمهارة فائقة واختيار دقيق للمفردات، ناقلًا روح النص عبر صياغة أدبية بليغة، فجاءت هي الأخرى تحفة أدبية خالصة.

ولعل من أهم ما يميز هذه السيرة؛ أن كاتبتها لم تحترف الكتابة قبلها؛ بل كانت حرفتها الصيد وتدريب الخيول والتحليق في السماء، وكانت أدواتها الرمح واللجام وأزرار قمرة الطائرة، غير أنها كانت قارئةً ذكية توظف ما تقرؤه مع ما تعيشه من تجارب الحياة، فأصقل كل ذلك قلمها وأنتج هذه اللوحة البديعة المفعمة بفلسفة عميقة لا تمنحها الكُتب بقدر ما يمنحها ميدان الحياة.

وعلى الرغم من أن رحلتها العالمية تُنسب إلى بلدها إنجلترا باعتبارها امرأةً إنجليزية، إلا أن صناعة هذه المرأة المُغامِرة التي لم تخش اجتياز الأطلسي وحدها ليلًا، قد تمت في أفريقيا، فمغامرةٍ كهذه لا تأتي من فراغ، بل يربض خلفها تاريخ حافلٌ بالتجارب في أرضٍ بِكر تتقن صناعة المغامرين، وهذه السيرة خيرُ دليلٍ على ذلك.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *