الرواية التاريخية نوع روائي، يجمع بين الحس التخييلي الروائي من جهة والمعرفة التاريخية من جهة ثانية، فتأخذ المتلقي إلى الزمن الماضي، ليستكشف الأحداث والشخصيات التاريخية من خلال التخييل الفني. زد على ذلك، أنَّ الرواية التاريخية وسيلة قوية لنقل المعرفة التاريخية بطريقة جديدة، كما تعزز فهمنا للثقافات والأحداث التي ساهمت في تشكيل عالمنا الحالي. وفي هذا المقال، نسعى لفهم الرواية التاريخية، وكيفية ظهورها، وأهميتها في المجتمع.
مفهوم الرواية التاريخية
حاول العديد من الكتَّاب تحديد مفهوم الرواية التاريخية، فيعرفها محمد القاضي بأنها: “نصٌّ تخيُّلي، نُسج حول وقائع وشخصيات تاريخية.” ويذهب المؤلف سعيد يقطين إلى أنَّها “عملٌ سردي، يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيُّلية، حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة”. ويرى جورج لوكاتش أنَّها: “رواية تاريخية حقيقة، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق”.
بناء على ذلك، فالرواية التاريخية: نمط روائي يجمع بين الفن والتاريخ، فتغدو الأحداث والشخصيات التاريخية أساس البناء الفني الروائي، الذي لا يهدف إلى تقديم معرفة تاريخية محضة، بل يطمح إلى نقل السياق التاريخي من وجهة نظرية تخييلية جمالية، كما أنَّ هذه الرواية المحملة بالتاريخ لا تنفصل عن الواقع، فهي تضيء الآني من خلال أحداث بعيدةٍ زمنيًا عن سياقنا المعاصر.
وممن اتجه من أدبائنا العرب نحو كتابة الرواية التاريخية: محمد سعيد العريان في روايات متنوعة أولها «قطر الندى»، وعلي أحمد باكثير وأشهر رواياته التاريخية «وا إسلاماه»، ونجيب محفوظ في روايات عدة، أولها «عبث الأقدار»، ورضوى عاشور في رائعتها «ثلاثية غرناطة». ولا نغفل عن ذكر الكتاب الخالد «ألف ليلة وليلة» الذي كان من أوائل الروايات التاريخية.
أنماط الرواية التاريخية
تنطوي الرواية التاريخية على العديد من الأنماط؛ فهناك الرواية التاريخية السياسية، والرواية التاريخية الاجتماعية، والرواية التاريخية المركزة على مساوئ الماضي، من أجل دفعنا نحو تجنبها، والرواية التاريخية المهتمة بتصحيح المغالطات التي وردت في كتب التاريخ ورسخت في أذهاننا، مثل الروايات حول جلال الدين الرومي وابن رشد، والروايات التاريخية الموجهة لخدمة أيدولوجيا معينة، مثل الروايات التي تتناول الجماعات الإسلامية أو الروايات التي يكتبها الغرب بغرض تعزيز أفكار الانفتاح، وتستخدم هذه الروايات أحداثًا حقيقية، بيد أنَّها تعرضها بطريقة غير حيادية، وهذا النمط من الروايات التاريخية شديد الخطورة، إذ بإمكانه تغيير أيدولوجيا القارئ، وتوجهيه حسبما يريد الكاتب بأسلوب سلس، قد لا ينتبه القارئ له، لذا يجب التزام اليقظة عند قراءة مثل هذه الروايات. وهناك نمط آخر من الروايات التاريخية، يعتمد على خيال الكاتب أكثر من اعتماده على وقائع تاريخية صحيحة، فيعرض تاريخًا بديلًا، مثل سلسلة روايات “بريدجرتون” للمؤلفة جوليا كوين، حيث ظهر في الروايات أصحاب البشرة السوداء في مناصب عليا في إنجلترا في القرن التاسع عشر دون مواجهة أي شكل من أشكال العنصرية، وهذا مخالف لما يؤكده التاريخ.
لا تفوت قراءة: نسيج الأدب والحكمة في كتب التراث (6 كتب نرشحها لك)
رحلة الرواية التاريخية في الوطن العربي
ظهرت الرواية التاريخية في أوروبا على يد الرواد، مثل: المؤلف الإنجليزي سير والتر سكوت، والفرنسي ألجزاندر دوماس، وبسبب شهرتهما تأثر بهما الكتَّاب العرب، فتبنوا فكرة الرواية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر، فكان رائد هذا الفكر في العالم العربي المؤلف اللبناني جرجي زيدان، إذ ألف اثنتين وعشرين رواية تاريخية في سلسلة “تاريخ الإسلام،” تتناول فترات مختلفة من التاريخ العربي والإسلامي، من الجاهلية حتى نهاية دولة المماليك في مصر بقيادة محمد علي، تُعتبر هذه الروايات رحلة زمنية تستعرض الأحداث والشخصيات التاريخية، وتعيد إحياء تلك الفترات بأسلوب سلس وشيق، وعلى الرغم من تأثر زيدان بالمدرسة الرومانسية إلا أنَّ غرضه الأول والأخير كان تعليم الشباب التاريخ الصحيح، واستعان بخيال الرواية فقط لجذب الشباب.
ويرى الباحث إيهاب الملاح أن الطفرة الثانية في فن الرواية التاريخية جاءت على يد المؤلف المصري نجيب محفوظ في القرن العشرين، وكانت روايات محفوظ التاريخية مستوحاة من التاريخ المصري القديم، تزامنًا مع كثرة الاكتشافات الفرعونية التي حدثت في ذلك الوقت، ومن أهمها اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922؛ إذ جعلت هذه الاكتشافات من التاريخ الفرعوني اتجاهًا عامًّا في الأدب، فأراد الكتَّاب البحث في الحياة الفرعونية وتجسيدها في كتاباتهم، خاصة وأنَّ الاكتشافات جاءت في وقت انتشرت فيه مبادئ الوطنية والقومية في ظل صراع الشعب مع الاحتلال الإنجليزي. وكانت أول رواية تاريخية يكتبها نجيب محفوظ “عبث الأقدار” التي تدور أحداثها في عصر بناة الأهرام، وكان الهدف من هذه الرواية تعزيز الروح الوطنية المتنامية باستعراض أمجاد مصر القديمة. وقال الكاتب القدير عن تجربته مع الروايات التاريخية: “اقتضى الأمر مني دراسة علم المصريات، خاصـة وقد كـان لديَّ النية لكتابة تاريخ مصر بأكمله في سلسلة من الأعمال الروائية، كما فعل جرجي زيدان في تاريخ الإسلام”.
وبعد «عبث الأقدار» جاءت رواية «رادوبيس» عن عصر الأسرة السادسة ورواية «كفاح طيبة» التي تستعرض كفاح أحمس الأول ضد الهكسوس. وبهذا اكتملت الثلاثية التاريخية لنجيب محفوظ، التي لا تزال أحد أهم الأعمال الأدبية شرقًا وغربًا، ونقطة فارقة في فن الرواية التاريخية. وعلى الرغم من عبقرية نجيب محفوظ في عرض الحياة الفرعونية، إلا أنَّ إنجازاته في الرواية التاريخية لم تقف عند هذه الحقبة، بل كان له كنز من الروايات التاريخية التي تناولت تاريخ مصر في عصور مختلفة.
ألهم جرجي زيدان ونجيب محفوظ الكثير من كتاب الرواية التاريخية الذين ظهروا بعدهما، من أبرزهم: نجيب الكيلاني في عدد من الروايات مثل «نور الله» و«عمر يظهر في القدس»، والكاتبة المصرية رضوى عاشور في «ثلاثية غرناطة». ولا يزال لدينا الكثير من كتاب الرواية التاريخية المعاصرين، مثل: إبراهيم نصر الله في «قناديل ملك الجليل»، وبنسالم حميش في «مجنون الحكم» وريم بسيوني في «أولاد الناس».
أهمية الرواية التاريخية
يبدو أنَّ للرواية التاريخية دورًا مهمًّا في حياتنا وحياة مجتمعاتنا، لذا لا بدَّ من أن نقف في هذا السياق عند أهمية الرواية التاريخية.
1. تعزز فهمنا للتاريخ
تقول الروائية مارجرت جورج: “يمكن للروايات التاريخية نقلنا إلى حقبة أخرى من الزمن” وإعادة إحياء “بانوراما التاريخ الواسعة”. فبتركيز كاتب الرواية التاريخية على حياة الشخصيات التاريخية وتفصايل حياتها اليومية في فترة ما من الزمن، نستطيع استيعاب الأحداث التاريخية، وتصور أثرها في المجمتع آنذاك. ونستطيع أيضًا فهم دوافع الشخصيات وتطورها الأخلاقي والذهني والحكم على اختياراتها، كما يقول أستاذ التاريخ في جامعة تكساس ستيفان مينتز. وبهذا كلِّه نفهم الأسباب الحقيقية وراء الأحداث التاريخية في صيغة قصصية مثيرة، عوضًا عن قراءة كتاب تاريخي محض يذكر الأحداث بطريقة مباشرة.
2. تسليط الضوء على المهمشين
يقول المؤلف الأمريكي إي إل دكتورو: “يخبرك المؤرخ ما حدث. ويخبرك الروائي كيف شعر الناس عند حدوثه”. ففي كثير من الأحيان يغفل التاريخ عن ذكر المهمشين في الأحداث التاريخية. فقد انتصر أحمس على الهكسوس، لكن ما كانت تبعات الصراع على الإنسان المصري العادي؟ ونشب صراع بين المسلمين واليهود، لكن كيف عاش المسيحيون أثناءه؟ يقول الأستاذ ستيفان إن النساء كنَّ من أوائل المرحبين بالرواية التاريخية، فقد كن مهمشات في معظم العصور، إذ وجدوا في الرواية التاريخية فرصة لتسليط الضوء على أسلافهن. فيقول: “أتاح هذا النوع من الأدب الفرصة لاستعادة أصوات أولئك الذين مُسحت أصواتهم وتجاربهم التاريخية”.
3. تغيير الواقع
يكتب الكثيرون روايات تاريخية من أجل تغيير الواقع السيئ، وذلك من خلال تسليط الضوء على نقاط التشابه بين الماضي والحاضر، وإثبات أنَّ التاريخ يعيد نفسه، بيد أنَّه بإمكاننا تغييره بالاستفادة من أخطاء من سبقونا. يقول ستيفن: “إن الرواية التاريخية تعبير عن سعينا المستمر وغير المنتهي لفهم أسلافنا الذين صاغونا وجعلونا نحمل الندوب، وحررونا إلى حد ما”. فبقراءة الرواية نتعرف على شخصيات عاشت في زمن آخر، يشبهوننا ويواجهون مشاكل شبيهة بمشاكلنا. وبالنظر إلى تجاربهم نستطيع التعلم منها والاستفادة منها.
4. توفير تجربة قرائية غنية
تعتبر الرواية التاريخية مصدرًا للترفيه والتسلية، حيث تقدم قصصًا مشوقة ومثيرة تأخذ القرَّاء في رحلة إلى الماضي. أي تساعد الرواية التاريخية القرَّاء على الانغماس في عوالم مختلفة وتجربة المغامرات والتحديات التي مرت بها الشخصيات التاريخية. ومما لا شك فيه أنَّ الحنين للماضي قد ساعد كثيرًا في شهرة الرواية التاريخية. فنجد كتَّابًا من المدرسة الرومانسية يكتبون بتركيز على إيجابيات الماضي وجمالياته من ملابس وأخلاق وروتين الحياة الهادئ. وبالرغم من أن بعضهم يغفل عن هذا الدور للرواية التاريخية، فالقراءة بغرض الاستمتاع لا تقل أهمية عن القراءة بغرض التعلم.
في نهاية هذا المقال، نجد أن الرواية التاريخية تُعتبر تجربة ثقافية وأدبية مهمة، فهي ليست مجرد قصة خيالية، بل هي رحلة في الزمن تمكِّننا من استكشاف الماضي وفهم تراثنا الثقافي والتاريخي بطريقة مشوقة وممتعة. باختصار، يمكن القول: إن الرواية التاريخية جسر بين الماضي والحاضر، وأداة لاكتشاف وفهم تراثنا وتاريخنا بطريقة مشوقة وممتعة. إنها تمنحنا فرصة للتعلم والتأمل في التجارب البشرية، وتعزز الوعي والتفاهم الثقافي، وتعكس جمالية الكلمات وقوة القصة في تجسيد الحقائق التاريخية والأبعاد الإنسانية التي تربط البشر كلهم.
اقرأ أيضًا: أهم الإصدارات التاريخية في عام 2024 (10 إصدارات تناسب الجميع) (قريبًا)
المصادر:
1. خصائص الروايات التاريخية لنجيب الكيلاني، محمد نجم الحق، مجلة العاصمة 2014 ، ع6.
2. الكُتاب العرب يتحمسون للرواية التاريخية والقراء ينتظرونهم، شريف صالح، إندبندنت عربية، 9 يونيو 2022.
3. «الرواية التاريخية» من جرجي زيدان إلى نجيب محفوظ، إيهاب الملاح، جريدة عمان، 2 سبتمبر 2023م.
4. الرّواية التاريخية .. المفهوم والنّشأة، أمين دراوشة، منصة بالعربية، 29 سبتمبر 2019.
5. اقرأ وصيف.. 7 روايات تاريخية تأخذك إلى عوالم جديدة وأحداث لم تعاصرها، محمد عبد الرحمن، 1 أغسطس 2021.