في عام 1966 كتب فريدريك بول المحرر في مجلة المجرة -المجلة الرائدة في مجال الخيال العلمي آنذاك- عن مشاركته في برنامج إذاعي مع مجموعة من الضيوف، للحديث عن مستقبل أعمال النشر. وفي خلال اثنتي عشرة دقيقة توصلوا معًا لاقتراح آلة فاكس عالية السرعة، يمكنها إنتاج كتابك عند الطلب في أي مكان في العالم.
تساءل بول إذا كان هذا النوع ممكنًا من الناحية التكنولوجية أم لا آنذاك، وأجاب أنه ممكنٌ لكنه يحتاج إلى وقت بالتأكيد، واختتم مقاله قائلًا إن هذا النوع من الطباعة -أو شيئًا من هذا القبيل- سيكون مشكِّلًا لأعمال النشر في وقتٍ ما بالمستقبل.
حسنًا، نحن الآن في الحاضر ونعرف أن الطباعة عند الطلب (Print On Demand) أصبحت ممكنة، بل وهي الآن جزءٌ أساسي من صناعة النشر، وامتدت لصناعات أخرى كذلك مع الكتب، وتساوي الآن مليارات الدولارات. إذ في عام 2022 بلغت قيمة حجم السوق العالمي للطباعة حسب الطلب 6.18 مليار دولار أمريكي، ويُتوقع لهذه الصناعة معدل نمو سنوي يتخطى 25%. سنتحدث في هذا المقال بالتفصيل عن الطباعة عند الطلب ودورها المهم في صناعة النشر.
ما الطباعة عند الطلب؟
الطباعة عند الطلب هي نموذج عمل يعتمد على طباعة المنتجات عندما تتلقى الشركة طلبًا بذلك فقط، ما يسمح لها بطباعة كميات قليلة من المنتج وعدم وجود مخزون ولا تكلفة عالية للطباعة. مثلًا يحتاج القارئ لكتاب معين، فيطلبه وتُطبع نسخة واحدة من الكتاب خصيصًا له. يُمكن تطبيق الطباعة عند الطلب على عدة صناعات، أشهرها بالطبع صناعة النشر وطباعة الكتب، وصناعات أخرى مثل الملابس والإكسسوارات والهدايا وغيرها.
تطورت صناعة الطباعة عند الطلب بتطور الطباعة الرقمية خلال القرن الماضي، حتى وصلت إلى شكلها الحالي واستخداماتها الواسعة، فهي تقنية أساسية في نموذج عمل العديد من المتاجر الإلكترونية المختلفة. ويتضمن عمل الطباعة حسب الطلب الخطوات التالية:
- استقبال الطلب: تبدأ العملية عندما يطلب العميل المنتج عبر الإنترنت بالمتجر الإلكتروني أو من خلال قناة البيع المتخصصة.
- تجهيز الملف للطباعة: تجهيز ملف التصميم أو النصوص التي يرغب العميل في طباعتها.
- الطباعة: استخدام آلات الطباعة الرقمية أو التقنيات الأخرى لنقل التصميم إلى المنتج النهائي. قد تشمل هذه الطابعات الحبرية أو الليزرية أو طابعات الحرارة أو غيرها من التقنيات المتقدمة.
- تخصيص المنتج: إذا كانت هناك خيارات لتخصيص المنتج (مثل إضافة اسم شخصي أو تغيير الألوان)، يمكن أن تتم في هذه المرحلة.
- التحقق من جودة المنتج: فحص المنتج لضمان جودة الطباعة وتلبية المواصفات المطلوبة.
- التعبئة والشحن: تعبئة المنتج بصورة مناسبة وإرساله إلى العميل.
- ما بعد البيع: الخطوة الأخيرة وتتضمن إرسال المعلومات للعميل لتتبع شحنته، والمتابعة لضمان رضا العميل.
إذا كنت صاحب عمل يستخدم الطباعة عند الطلب، فليس شرطًا أن تتولى جميع هذه الخطوات بنفسك. مثلًا يمكنك تولي مهمة الطباعة فقط، وإحالة عملية الشحن لشركة متخصصة في هذا الأمر، وهذا نمط شائع لأنه يتيح لك بيع منتجاتك في أماكن متنوعة حول العالم، بالتعاقد مع شركات شحن مختلفة، فتكون قد أزحت عن كاهلك عناء مهمة معقدة مثل الشحن، وسيتسع النطاق الجغرافي لوصول منتجاتك.
في الحقيقة يا صديقي، يمكنك حتى الاستفادة من فكرة الطباعة عند الطلب دون تنفيذ أي مهام إطلاقًا، إذ تركز فقط على المنتج الذي تعرضه، وتتعاقد مع منصات متخصصة في تقديم خدمة الطباعة عند الطلب، فتعرض منتجك على هذه المنصات، وهي تتولى عملية الطباعة والتوصيل إلى العملاء.
مثلًا، أنت مؤلف وترغب في نشر كتابك وإتاحته ورقيًّا للمهتمين باقتنائه، لكن لا يمكنك تنفيذ مهمة الطباعة حسب الطلب بنفسك. في هذه الحالة يمكنك إتاحة كتابك على منصة تقدم هذه الخدمة مثل سماوي، وستتولى المكتبة عملية الطباعة عند الطلب عندما يرغب أحد القراء في شراء كتابك، وتقوم بتوصيله إليه.
مميزات الطباعة عند الطلب
يتضمن نموذج الطباعة عند الطلب مزايا متنوعة لمن يستخدمه من أصحاب المشاريع والأفكار. من أهم مميزات الطباعة عند الطلب:
1. توفير التكاليف
في الطباعة عند الطلب أنت لا تدفع سوى تكاليف ما يطلبه العملاء، وهذا يجنبك تكاليف إنتاج كميات ضخمة من المنتج والحاجة إلى وجود استثمارات كبيرة لتنفيذ مشروعك، كما أنك لا تضطر لتحمل التكاليف الخاصة بتخزين المنتج.
مثلًا، أنت صاحب مكتبة تبيع أنواعًا مختلفة من الكتب، لن تحتاج لطباعة أعداد كبيرة من الكتب لتبيعها إلى جمهورك؛ فقط أنت تعرض أسماء الكتب على متجرك الإلكتروني، وعندما يطلب العميل كتابًا، وقتها ستطبع له النسخة وترسلها إليه.
2. التخلص من أعباء التخزين
انطلاقًا من النقطة الماضية، تُخلصك الطباعة عند الطلب من أعباء التخزين، وما يتبع ذلك من مهام مختلفة. فمثلًا إذا كنت تبيع الكتب فأنت بحاجة إلى تنفيذ الآتي:
- شراء أو تأجير مكان للتخزين، وقد تحتاج إلى مواصفات معينة في المخزن للحفاظ على الكتب من التلف.
- نقل الكتب من المطبعة إلى مكان التخزين، ومن المخزن إلى شركات الشحن أحيانًا.
- استخدام نظام متخصص لإدارة المخزون، لمتابعة أعداد الكتب الموجودة، وتحديث المخزون بعد عمليات البيع، وغيرها من المهام.
- توظيف فريق عمل كامل للعمل في التخزين.
بالإضافة إلى ذلك لن تقلق بسبب وجود فائض في المخزون كما يحدث مع العديد من أصحاب المشاريع الأخرى. لأنه ببساطة إذا لم يطلب أحد المنتج فهو لن يكون موجودًا من الأساس.
3. اختبار الأفكار بسهولة
مع الطباعة عند الطلب، سيمكنك اختبار الأفكار بسهولة شديدة، فلن تضطر إلى تحمل تكاليف مسبقة، ولن تقلق بشأن الإقبال على شراء المنتج أو لا، مجرد أنك ستتيح المنتج للجمهور وببساطة ستقيمه من ردود الأفعال عليه. إذا لاقى إعجابهم فأنت تعرف أنه منتج ناجح، وإذا لم ينل القبول فأنت لم تخسر شيئًا من التجربة.
مثلًا لو أن هناك كتابًا جديدًا وأنت لا تعرف بعد فرص بيعه في السوق، فلن تضطر إلى تخزين أعداد كبيرة منه أولًا لاختبار فرص نجاحه، بل سيمكنك بسهولة عرض الكتاب لديك، وفي حالة الطلب تبدأ عملية الطباعة والشحن.
تحديات الطباعة عند الطلب
بالطبع لا يزال نموذج الطباعة عند الطلب يواجه بعض التحديات، ومن أهم تحدياته حتى الآن:
1. ارتفاع تكلفة الوحدة الواحدة
ترتفع تكلفة الوحدة الواحدة في نموذج الطباعة عند الطلب، خصوصًا لأن التكلفة ستتضمن في هذه الحالة حساب تكلفة العملية كاملة على منتج واحد (الطباعة + التعبئة + الشحن)، ولا يمكنك دائمًا بيع المنتج للعميل بزيادة سعره؛ ما يترتب عليه في النهاية تحقيق هامش ربح أقل مقارنةً بالطرق الأخرى التي تتوزع فيها التكلفة على جميع الوحدات.
مثلًا، إذا كنت تبيع الكتب بنموذج الطباعة عند الطلب، فلن تتمكن من زيادة سعر الكتاب أو تسعيره باختلاف كبير عن بقية المتاجر الأخرى التي تبيعه للقارئ، لأنه في هذه الحالة قد لا يهتم كثيرًا سوى بشراء الكتاب بالسعر الأقل، بغض النظر عن طريقة طباعته.
2. زيادة الوقت المطلوب في البيع
عادةً في النموذج التقليدي للطباعة، تتواجد المنتجات بالفعل في المخزن بعد طباعتها، ومن ثم ستستغرق العملية فقط الوقت اللازم لشحن المنتج إلى العميل. بينما في نموذج الطباعة عند الطلب، سيُضاف إلى العملية وقت طباعة المنتج وتغليفه وتجهيزه للشحن.
كيف تستفيد صناعة النشر من الطباعة عند الطلب؟
ارتبطت صناعة النشر كثيرًا باستخدام الطباعة عند الطلب، ولا عجب في ذلك في تقديري، لأن هذا النموذج يبدو فعالًا للعديد من المستفيدين ضمن صناعة النشر، ويعد خيارًا ناجحًا للتعاقد بين الكُتاب ودور النشر والمكتبات. وإليك أمثلة على ما أقصده:
1. الكاتب
يمكن للكاتب نشر كتابه دون تكلفة تقريبًا عبر الطباعة عند الطلب، فلن يقلق بشأن البحث عن دار نشر للتعاقد معها، بل يحتاج في هذه الحالة فقط للبحث عن منصة تقدم له خيار الطباعة حسب الطلب.
كما أنه من ناحية أخرى تتيح له الطباعة عند الطلب تحديث الكتاب وتعديله بسهولة، وهذا يجعل الكاتب قادرًا على تطوير ما يقدمه بالاستجابة لتعليقات الجمهور، دون الاضطرار لانتظار وقت طويل حتى نفاد الطبعة الحالية وانتظار طبعة جديدة من الكتاب.
2. الناشر
يتيح هذا النموذج للناشرين الاتفاق على نشر مجموعة متنوعة من الكتب، دون الحاجة للقلق بشأن التخزين أو التكاليف الخاصة بالإنتاج المسبق والطباعة. كما أنه لن يضطر إلى التعاقد مع الكُتاب بمبالغ كبيرة، بل يمكنه نشر الكتب مجانًا، وهذا سيمكنه من استقطاب قاعدة أكبر من الكُتاب الذين يرغبون في نشر أعمالهم دون دفع أموال في مقابل ذلك.
3. المكتبات الإلكترونية
يمكن إنشاء مشروع كامل لبيع الكتب عبر الإنترنت، بدلًا من المكتبة التقليدية، التي تتضمن شراء مخزن للكتب ووجود عمليات خاصة بنقل الكتب إلى المخزن والمكتبة، ثم شحنها إلى العميل، ومتابعة المخزون باستمرار، وكذلك متابعة عمليات البيع مع دار النشر الموردة للكتب. كل هذه الأمور مرهقة ومكلفة وتتضمن مخاطرة محتملة.
من خلال نموذج الطباعة حسب الطلب، يُتاح للمكتبات الإلكترونية بيع الكتب وإتمام العملية رقميًّا بالكامل. كما يمكن للمكتبة توسيع نشاطها في الطباعة والبيع، إذ يمكنها العمل في منتجات أخرى مثل الكتالوجات وأدلة الاستخدام وكتب التخرج وغيرها من المنتجات التي لا يكون هناك احتياج ثابت لها، ويبحث أصحابها عن طباعة عدد محدد من النسخ.
4. الكتب التعليمية والأكاديمية
يمكن للمعلمين والأكاديميين استغلال نموذج الطباعة عند الطلب لطباعة المواد التعليمية، وهذا يتيح لهم طباعة عدد محدود حسب أعداد المتعلمين، كما يسمح لهم بتطوير محتواهم التعليمي باستمرار، إذ يمكنهم استبدال النسخة التي يرغبون في طباعتها.
ويستفيد القراء الخارجيون أحيانًا من هذا الأمر، إذ يحصلون على فرصة لاقتناء بعض هذه المواد التعليمية التي تتاح في بعض الأوقات للراغبين في الشراء، وغالبًا ما تكون هذه المواد ذات جودة عالية، مثل بعض رسائل وأطروحات الماجستير والدكتوراة.
كما ترى، تخلق الطباعة حسب الطلب تكاملًا بين أطراف صناعة النشر، وتُحضر معها فرصًا متعددة لنمو هذه الصناعة وتطورها. لا أقول أبدًا إن تنفيذها سهلٌ وبلا تحديات، بل لا بد من دراستها جيدًا للتأكد من مدى ملاءمتها لك قبل استخدامها. سواءٌ كنت كاتبًا أم دار نشر أم مكتبة، فابحث في الأمر بدقة، لتضمن إدارة التحديات والتعامل معها جيدًا، فتحصد المميزات فقط، وتبدأ رحلة ناجحة مع عملك باستخدام الطباعة حسب الطلب.