عزيزي القارئ، إن ما أتى بك إلى هنا، وجمعنا في سطور واحدة؛ قارئًا وكاتبًا، هو حبنا للقراءة، وبسبب هذا الحب، نرغب بأن نعرف أكثر عن هذه الفاعلية المعقدة والمهمة، التي تضيف لذواتنا معارف وخبرات جديدة؛ فكل كتاب نقرؤه يضيف لنا حيوات أخرى كنا نجهلها، كما قال إمبرتو إيكو. بمعنى آخر: نريد أن نفهم تصورات الآخرين عن القراءة، وأفكارهم حولها، ورؤيتهم لها.
القراءة فن؛ كيف تعرف الكتاب الجيد؟
مع التطور العلمي والتحديث المستمر، أضحت القراءة فنًّا، مثلها مثل الكتابة تمامًا، فالقارئ الذكي هو العارف ما الذي يتوجب عليه قراءته، لتحسين حصيلته المعرفية، وذلك دون الانغماس في مواضيع لا تسمن ولا تغني. وفي هذا السياق، لا بد من أن ننبه إلى أن معيار الفائدة نسبي، فما تراه مفيدًا قد يراه شخص آخر غير مفيد أو ذا فائدة محدودة.
يعرف الفيلسوف الإيطالي إسبينوزا القراءة بأنها «لذة الفهم»، فمتعة المعرفة لا تنفصل أبدًا عن تحصيلها، وإن تقاطعت طرق المتعة والفهم وحل الضجر، لن تصل إلى مرحلة الفهم. وبالتالي، ما عليك إلا التوقف عن القراءة، ولو مؤقتًا. فالكتاب الجيد عمومًا هو ذلك الكتاب الذي تدخله بروح وأفكار معينة، فتخرج منه بروحٍ أخرى، فاهمة ومستمتعة.
ويضع مؤلف الكتاب بعض الشروط التي لابد من أن تتوفر في أي كتاب تريد قراءته:
- لا بد من أن يقدم الكتاب إضافة جديدة في مجاله، كما لا بد من أن يشكل إضافة لك.
- ألا يخلو من المتعة التي تحفز عقل القارئ على التفكير وتدفعه لإعادة النظر في تصوراته السابقة وأفكاره القديمة.
- يجب أن يقدم الكتاب حلًّا لمشكلة ما أو لغز في مجاله، بل قد يقدم أيضًا تصحيحًا لمعلومة أو مغالطة مشهورة.
أما عن المعايير التي لا بد من أن تضعها لنفسك في أثناء القراءة، والتي من شأنها زيادة متعتك وسعة اطلاعك، فهي:
- الابتعاد عن التصورات والأحكام المُسبقة عن الكتاب، واستكشافه بنفسك.
- تكمن أهمية القراءة في إحداثها تغيرات في ذهن القارئ، فهي ليست للمتعة فحسب. لذا، فالكتاب الذي يثير التساؤلات في ذهنك أفضل من الذي يوثق رأيك.
- الاحتفاظ بمسافة بينك وبين الانبهار الكامل بأي كتاب أو كاتب، وذلك لتستطيع الحكم على العمل حكمًا صحيحًا.
اقرأ أيضًا: دليلك إلى أفضل الكتب حول تاريخ المكتبات في العالم (قريبًا)
عادات القراءة: أفكار تكونت عبر الزمن
ينقل الكاتب بعض ما علمته إياه سنوات القراءة، فيذهب إلى ما يلي:
- إن تكوين عادة القراءة فعل شاق؛ فالقراءةُ عادةٌ، تحتاج لتدريب وتكرار وإجبار للنفس والعقل على التركيز والفهم، وحض للجسد على الجلوس.
- إن الكتاب الجيد يستحق القراءة مرتين؛ ففي المرة الثانية، إما أن يتأكد إعجابك بالكتاب وتفهم ما فاتك في المرة الأولى، أو أن يخفت انبهارك وتعلم أنه مجرد كتاب عادي.
- حاول تعلم القراءة بلغة أخرى، ليس لسوء الترجمات العربية مثلًا، وإنما القراءة باللغة الأصلية له متعة مختلفة، وأيضًا بسبب توسع عملية النشر في التخصصات باللغة الأجنبية، مقابل ضعفها في اللغة العربية.
- ضع بجانبك مسودة، لتسجل فيها ملاحظاتك، سيساعدك هذا في تجميع أفكارك، بل يمكنك أن تعود إليها في المستقبل، لترى ماذا فهمت من الكتاب.
- لا تتعجل في قطف ثمار قراءاتك، فالعملية تحتاج تدريبًا وصبرًا. ومع الوقت، ستظهر هذه الثمار، وتذكر دومًا أنك لن تعرف كل شيء، إذ هنالك دومًا ما تجهله.
أفكار من القراءة: خبرات بعد سنوات
يقدم الكاتب بعض الأفكار التي تكونت عنده عبر سنوات من القراءة، تمكن خلالها من امتلاك خبرة التفريق بين غث الكتب وثمينها، وهي:
- الأدب ليس محطة استراحة؛ إذ تُعتبر الأعمال الأدبية ضرورية لفهم تكوينات البشر، واستكشاف أفكار الشعوب، ومعرفة رؤية الآخرين للعالم وفهمهم له.
- عليك أن تقرأ للعظماء والمشهورين ولا تقرأ عنهم، فإن سمعت مدحًا أو ذمًّا لكاتب ما، فلا تأخذ به، بل عد إلى كتاباته واقرأها، وكون رأيك الشخصي.
- وسع قراءاتك، واتجه نحو القراءة الأفقية، مع الاهتمام بالتعمق العمودي؛ فالقراءة الأفقية تجعلك مثقفًا موسوعيًّا، يفهم آليات سير العالم، ويعي ما وصلت إليه العلوم الحديثة، والقراءة العمودية تجعلك تفهم أكثر في تخصصك أو الموضوع الذي يشغل بالك.
- اقرأ كتب السير الذاتية، فهي تعرض وجهة نظر من هم داخل مطبخ الأحداث، سواء أكانت أحداثًا سياسية أم اجتماعية. طبعًا، ليس كل ما في هذه الكتب حقيقي وصادق، ولكنها وجهة نظر يمكنك الاطلاع عليها.
الحياة قصيرة: القراءة بفعالية لتكسب الوقت
القراءة نشاط عقلي بامتياز؛ إن كان عقلك مشغولًا ومزاجك غير رائق، فقد ترى الكتاب الذي بين يديك بطريقة معينة، وعندما تقرؤه في مزاج مناسب، تراه بطريقة مختلفة، لذا، قبل أن تحكم على الكتاب خذ حالتك المزاجية أثناء القراءة بعين الاعتبار، بل لا بد أيضًا من أن تراعي في الحكم سنك، وقدراتك النقدية، ومعرفتك السابقة بعالم القراءة والكتب.
فالكتب التافهة التي قد تمر عليك في بدايات قراءتك تعطيك مناعة، فمن خلالها تعرف ما يجب أن يكون عليه الكتاب الجيد، وهذا لا يعني أن تكثر من قراءة الكتب التافهة، بل على العكس تمامًا، فالقراءة السريعة وقراءة الكتب التافهة مضرة. لذا، عليك أن تتجه نحو القراءة المتمهلة للكتب النوعية، فقراءة كتاب واحد جيد، أفضل من القراءة السريعة لخمسة كتب تافهة.
لا تحزن لعدم استطاعتك قراءة كل الكتب التي تتطلع إلى قراءتها، فجميع القراء وقعوا في تلك المغالطة، وتذكر دومًا أن الحياة قصيرة، ولن تستطيع قراءة كل الكتب وهضمها. لذا، لا تضع وقتك في اختيار كتب لا تستحق القراءة، واعمل على تطوير اختياراتك دائمًا.
لا تفوت قراءة: التهام الكتب بين المدح والذم
نصائح لرسم الطريق
هناك العديد من الكتب التي لا بد من أن تقرأها. مثلًا، لا بد من أن تقرأ في علم الإنسان؛ ذلك العلم الذي يهتم بالإنسان، وأحواله، ونشأته، وأصله، وتاريخه. واقرأ أيضًا في علم الاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، فهي علوم لا مفر من التعرف عليها، كما أنها مرتبطة بعضها ببعض، وتنمي إحساسك بوجودك في العالم والمجتمع. كذلك ضع في خطتك كتب العلوم الطبيعية، حتى تفهم تقدم العالم من حولك، وتستمتع بلذة اكتشاف المجهول. ولا تهمل الكتب الدينية، فهي طريقك للنجاة بدينك، فمن خلال قراءتك بالدين يصعب لأي شخص اختراق آليات تفكيرك؛ فيفرض عليك شيئًا أو يمنعه باسم الدين وهو غير ممنوع.
حاول صديقي القارئ أن تعوض كل ما ينقصك بالقراءة، ولكن قبل ذلك حدد ما ينقصك فعلًا، وهذا لن تعرفه إلا إذا تعمقت أكثر في القراءة؛ فهي عملية متشابكة ومتواصلة، تقرأ لتجد ما تجهله، فتقرأ ما تجهله لتجد ما هو مجهول لك أكثر.