أؤمن بأنه لا وجود لمن لم يختبر الكتاب رفيقًا أو جليسًا، لكن القليل منا -لحسن حظه- قد اختبر الكتاب طبيبًا، وإن جاز التعبير منقذًا. لا بدَّ أنك سمعت مؤخرًا عن كتب مساعدة أو تطوير الذات، أو رأيت بعضها في المكتبات. تعتمد تلك الكتب على علم النفس في تفسير السلوك البشري والمشاعر والمشكلات التي تواجه الإنسان بصفة شبه يومية مثل مشكلات العلاقات الاجتماعية. وتهدف -من ثَمَّ- إلى تقديم المساعدة في صورة إرشاداتٍ قد تساعد القارئ في تقويم سلوكه، أو تنظيم مشاعره، أو حلِّ مشكلاته. وقد وصل الأمر حد مقارنة فاعلية العلاج بالقراءة (أو البِبليوثيرابيا – Bibliotherapy) بفاعلية الجلسات النفسية أو العلاج بالدواء، حيث يتجلَّى ذلك في تصريح الدكتور «جون نوركرس»، اختصاصي علم النفس بجامعة «سكرانتون»، الذي أوضح من خلاله تفضيله أن يجرب الطبيب النفسي العلاج بالقراءة أولًا قبل اللجوء إلى الجلسات النفسية، باستثناء حالات الذهان والميول الانتحارية والطوارئ. فتعالَ صديقي لنلقي نظرةً من كثبٍ على هذا النوع من الكتب، ولنبدأ بتاريخها.
تاريخ كتب مساعدة الذات
يبدو أن لكتب مساعدة الذات تاريخًا طويلًا يمتدُّ إلى ما قبل الميلاد، وتحديدًا في مصر القديمة، حيث نجد أُولى المدوَّنات الخاصة بالسلوكيات التي تعتمد في أحد سطورها على أسلوب تأنيب الضمير لشرب الخمر حتى السُكر: «تترنَّح من شارع إلى شارع ورائحتك كالجعة، كأنك دفة مكسورة لا فائدة لها، ومَن رآك فقد رأى بهلوانًا يمشي على الحائط». وننتقل من مصر القديمة إلى روما القديمة، فنجد كتابًا لـ«شيشرون» بعنوان «عن الواجبات»، ألَّفه لابنه يعلِّمه فيه الوفاء بالتزاماته تجاه الآخرين حتى إن تطلَّب ذلك تضحية كبيرة، وليحذره من المصادر الضحلة لإشباع الذات، معتمدًا على النوادر في إيصال الأفكار، وعلى الأسلوب غير الرسمي الخاص بالرسائل آنذاك. وكذلك نجد في التراث الإسلامي نوع الكتب التزكوية التي تتخذ نمط الإرشادات، مثل رسالة الإمام أبي حامد الغزالي «أيها الولد»، التي كتبها في الرد على تساؤل أحد تلامذته عن أنفع العلوم له في الآخرة بعد أن تعلَّم الكثير منها. فكان الكتاب دستورًا يربط العلمَ الحق بإحياء الشريعة وتهذيب الأخلاق. وكذلك للكتب الدينية دورٌ كبير، إذ يلتجأ لها بغرض تقويم السلوك وتنظيم المشاعر، حيث يُذكِّر القارئ بحبِّ الله له وبالمبادئ التي يحبُّ أن يتحلَّى بها الإنسان.
أما عن تطور كتب مساعدة الذات، فقد بدأ بعد صدور الكتب السالف ذكرها بقرون. حيث ذكرت «إليزابيث سفوبودا» في أحد مقالاتها أن الفلاحين والحِرفيين والسياسيين في بداية تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية ارتاحوا لمن يتحدثون بعباراتٍ تشبه تلك التي نقرؤها اليوم في كتب مساعدة الذات من أمثال «هنري ديفيد ثورو» و«رالف والدو إمرسون»، مثل القول إن التضحية والمعاناة تجعلان للحياة معنًى. أما بحلول وسط القرن العشرين، فلم يعُد لنكران الذات الشعبيةُ نفسها، وحلَّت محلَّه الفردانية الساعية لتطوير المواهب إلى أقصى حدّ. وحينها ظهرت كتب مساعدة الذات التي تحمل الهدف نفسَه، مثل كتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» الصادر عام 1936م بقلم «ديل كارنيجي». وبعد ذلك، في خمسينيات القرن الماضي، اتجهت الأنظار إلى نظريات التحليل النفسي لـ«سيجموند فرويد»، التي صُمِّمَت على أساسها كتب تدَّعي القدرة على تغيير القارئ «دون ألم»، مثل كتاب «قوة التفكير الإيجابي» لـ«نورمان فينسينت بيل».
لكن هل تعتمد كل كتب مساعدة الذات حقًّا على علم النفس؟ وهل هذا ضروريٌّ في الأساس؟ لِمَ لا نكتفي بنظرة الكاتب عن الحياة وتجربته الذاتية؟
بالنظر إلى الرائج من كتب مساعدة الذات في وقتنا هذا، لا يحتاج الأمر لأكثر من نظرة فاحصة وناقدة لنعرف أن ليست كل الكتب تستند إلى أساس علمي. فمثلًا، الكتاب الشهير الصادر عام 2006 بعنوان «السر» لـ«روندا بايرن» تصدَّر قائمة المبيعات على الرغم من عدم احتوائه على نظرية علمية أو منطقية تُذكَر. فمؤلِّفة الكتاب تدَّعي ببساطة أن التفكير الإيجابي يبعث إشاراتٍ إلى الكون فتقع أحداثٌ إيجابية، والعكس بالعكس. بالإضافة إلى الاعتقاد الخطأ بأن الإنسان يجذب إليه ما «يقرِّر» التفكير فيه. أرى أيضًا أن الكتاب يفتح مساحةً واسعةً للقارئ أن يبرِّر لنفسه وللآخرين أفعالًا قد لا تسرُّ نتائجها، وذلك بسبب فكرة جذب الأحداث وأنْ لا يد له فيها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فإن تأذَّى الآخرون بسبب القارئ، سيعتقد أنهم هم مَن جذبوا الأذى لأنفسهم بأفكارهم السلبية. وإن تأذى القارئ نفسه، فسيلوم نفسه على أفكاره السلبية لا على قراراته وأفعاله الخاطئة أو غير المدروسة. وفي الحالتين، لن يُلام إلا المتألِّم. ومن ثَمَّ لا يُسهم هذا الكتاب بأي صورة من الصور في تعديل سلوك القارئ أو حتى في مساعدته على تنظيم مشاعره؛ لأنه لا يناقش المشاعر.
وتلك حالة من حالات، ومثالٌ من أمثلة، توضح لنا جميعًا أن الأساس العلمي أمرٌ ضروريٌّ لا مناص منه! فلماذا إذن تُنشَر الكثير من الكتب التي لا تستند إلى أساس علمي؟ وماذا نقرأ؟
لا تفوت الاطلاع على كتب مساعدة وتطوير الذات على مكتبة سماوي.
حقل تجارب
يعود سبب ظهور الكتب التي تفتقر إلى أسس علمية إلى غياب الاختبار العلمي في هذا المجال. ففي دراسة أجراها الدكتور «جون نوركرس» على 240 كتابًا في مساعدة الذات، تبيَّن أن 43% فقط من تلك الكتب تذكر مصادر علمية للتدليل على الادعاءات التي تحتوي عليها. يعني ذلك أن أقلَّ من نصف الكتب محل الدراسة موثوق بها وبفاعليتها من الناحية العلمية.
ونقلًا عن «إليزابيث سفوبودا»، فمن الكتب التي ساعدتها في التغلُّب على أفكارها السلبية كتاب «الطريق الأقل ارتيادًا» لـ«مورجان سكوت بيك»، وكتاب «الشعور الجيد: العلاج الجديد للتقلبات المزاجية» لـ«ديفيد دي بيرنز». وإن نظرنا لأهم ما يميز كتاب «الطريق الأقل ارتيادًا» فهو النقاش المبني على العلم دون تعقيد، فالكتاب يناقش مفاهيمَ بسيطة في جوهر أثرها على العقل مثل: الانضباط، والمحبة، والنمو الروحي، والنعمة. بينما يصف كتاب «الشعور الجيد: العلاج الجديد للتقلبات المزاجية» القلقَ، والتشاؤم، والتسويف، وقلَّة تقدير الذات بـ«الثقوب السوداء» ويتعامل معها على هذا الأساس. كما يُقدِّم حلولًا بديلة لعلاج الاكتئاب، ودليلًا لاستخدام مضادات الاكتئاب. ومن ثَمَّ لا يعمل هذا الكتاب على حلِّ المشكلات الموجودة من الأساس فقط، بل يساعد أيضًا في التغلُّب على الأعراض الجانبية للأدوية المستخدمة لحلِّ مشكلة من تلك المشكلات.
لا يفوتني أيضًا ذِكْر الكتب التي زخرت بها المكتبة العربية، خاصةً في الآونة الأخيرة، وأسهمت في انتشار الوعي بالصحة النفسية، وتقبُّل المجتمع العربي للعلاج النفسي، وذلك مع ظهور أعمدة جديدة في مجال الطب النفسي في مصر والوطن العربي. من أفضل الكتب التي ظهرت على الساحة مؤخرًا، والتي حقَّقت رواجًا عاليًا كتب الدكتور محمد طه مثل: «لأ… بطعم الفلامنكو»، و«علاقات خطرة»، و«الخروج عن النص» بجزأيه. وقد حاول الكاتب في هذه الكتب تيسير وصول المحتوى لجمهوره المستهدف الأول، فكتبها باللهجة العامية المصرية. لكن دعونا لا ننسى أن المحتوى عادةً ما يكون ثقيلًا على النَّفْس بعض الشيء حتى إنه يصف كتابه «علاقات خطرة» بأنه «وجبة نفسية دسمة»، وينصح بعد ذلك بـ«تناولها على فترات، وبجرعات مناسبة»، وهو الأسلوب الذي يُفضَّل اتباعه مع جميع مؤلفاته. وكذلك شارك الدكتور عماد رشاد عثمان بكتب متميزة، أبرزها «أحببت وغدًا» للتعافي من العلاقات السامة، و«ممتلئ بالفراغ» للتعافي من الأشكال المختلفة للإدمان. وتتميز كتب هذا الأخير بأن له أسلوبًا أدبيًا مُتقَنًا يحوي مادة علمية مفيدة إلى أبعد الحدود. وعلى الرغم من فصاحة عباراته، فإنها تصف شعور القارئ إلى حد كبير، فيطمئن إيمانًا منه أن هناك مَن يشاركه الشعور ذاته.
اقرأ أيضًا: خفايا القراءة؛ أسرارها وقوانينها
من القارئ المستهدف؟
ومن هنا تنشأ تساؤلات جديدة: هل يمكن لكل الناس أن تستفيد من هذه الكتب؟ ومَن الذي يُحدِّدها نهجًا للعلاج؟ وهل لكتب مساعدة الذات مساوئ، أم إنها خالية من العيوب؟
وفقًا لموقع Very Well Mind المتخصص في الصحة النفسية، يمكن لكتب مساعدة الذات أن تُسهم في حلِّ مشكلاتٍ مثل القلق، والاكتئاب، واضطرابات الأكل، ومشكلات العلاقات، والإدمان، والمخاوف الوجودية مثل العزلة، وفقدان المعنى، والحرية، والموت. كما يمكن لتلك الكتب المساعدة في التحكُّم بالغضب، واكتساب سلوك ملائم اجتماعيًّا، بالإضافة إلى التعامل مع الخجل، والحزن، والرفض بأسبابه المختلفة. وبحسب ما ذكرت «إليزابيث سفوبودا» في إحدى مقالاتها، أصبح من الممكن لتلك الكتب أن تنزع الفكر التشاؤمي، وأن تحدَّ من الرهاب الاجتماعي. ومن ثَمَّ يمكن لمن يعانون إحدى تلك المشكلات اللجوءُ في البداية إلى كتب مساعدة الذات قبل تجربة الجلسات النفسية أو الأدوية. وهنا أكرِّر أن الكتب ليست لمن يعانون الذهان أو الميول الانتحارية، وبالتأكيد غير ملائمة لحالات الطوارئ.
لكن بذكر مشكلات محدَّدة كالقلق والاكتئاب، يصبح من الجدير بالذكر أيضًا أن هذا النوع من المشكلات يندرج في قائمة الاضطرابات النفسية. ومن هنا نتطرق إلى مسألة مهمة، ألا وهي تحديد المشكلة، أو بمعنى أدق: التشخيص. قد لا يكون حزنك اكتئابًا، أو الضغط النفسي الذي تشعر به قلقًا، ربما يتعلق فقدان شهيتك أو زيادتها بمشكلة عضوية لا نفسية، أو قد يكون الخلاف الذي نشب بينك وشريك حياتك خلافًا عاديًّا لا يعني بالضرورة أنك تواجه مشكلة في علاقتكما، وقد تكون مخاوفك الوجودية منطقيةً بعض الشيء بحسب ظروف حياتك. فمن المهم أن تحصل على تشخيص قاطع من مختص -سواء كان معالجًا أو طبيبًا نفسيًّا- حتى تتأكَّد من وجود المشكلة أولًا، ومن حدَّتها ثانيًا. وحينها يمكنك الاطلاع على الكتب التي يمكنها القيام بدور البطولة في رحلة إنقاذك واختيار أحدها.
أخيرًا وليس آخرًا، يتوجب عليَّ التحذير من بعض الأخطاء التي قد يسقط بعضنا فيها عند اللجوء إلى كتب مساعدة الذات. لا تعتمد عليها اعتمادًا كاملًا في المساعدة على التعافي من أي مشكلة، فقد يعزلك ذلك عن أسرتك وأصدقائك. صحيح أن الكتاب سيقدِّم لك دعمًا معنويًّا فريدًا، لكنه بالطبع لن يغنيك عن التواصل مع دائرتك المُقرَّبة، ولن يكون أبدًا في صدق المشاعر الإنسانية العميقة من الوالدين أو الإخوة أو الأصدقاء. كما يمكن للاعتماد الكامل على الكتب أن يفقدك الأملَ في التعافي إن فشل أولُ كتاب في ذلك لأي سببٍ كان. فقط تذكر أن الكتاب ومؤلِّفه لا يعرفانك. واحذر أيضًا سوء فهم كتب مساعدة الذات أو سوء استخدامها. فقد تحتوي الكتب على حكايا مشابهة لحكايتك أو على شرحٍ لحالة مقاربة من حالتك، لكن لا ينطبق بالضرورة أيهما عليك انطباقًا كاملًا، ما قد يجعلك تتخذ مساراتٍ غير ملائمة لك مستندًا فحسب لأن الكتب أرشدتك إليها. احرص على استشارة مختصّ عندما يختلط عليك الأمر فيما يخصّ الأساليب المرشَّح اتباعها في الكتب.
أما عن نصيحتي، فاحذر اعتياد استخدام المصطلحات العلمية في وصف المحيطين بك لتشابه صفاتهم أو حتى تطابقها التام مع الصفات المذكورة في الكتب. وإن نشأتْ في ذهنك بعضُ الشكوك تجاههم وأردت التأكُّد، فمن الأفضل التواصل مع أحد المختصين. وتذكَّر دائمًا أنك لست مخوَّلًا بذلك ولست طبيبًا!
«الحياة صعبة. تلك حقيقة عظمى، لكنها ليست الحقيقة الوحيدة». لكن الكتاب خير رفيق في الحياة، وخير منقذ من السقوط الكامل تحت وطأة العقل. إن كنت تعاني، فلا داعي لخوض المعاناة وحدك. وإن سقطت في أحد «الثقوب السوداء»، فَلِمَ لا تبحث عن كتابٍ يخرجك منها؟