ارتبطت الحضارة العربية بالكتاب والمكتبات ارتباطًا وثيقًا، فقد حظيت المكتبات بعناية خاصة من الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء وكبار رجال الدولة، إذ أيقنوا أنَّ المكتبات تشكِّل تخليدًا لذكراهم، فعملوا على تأسيسها، ودعمها، وتزويدها بالكتب والمخطوطات، ووقف الأملاك عليها، حتى أصبحت البلدان العربية في مصر والعراق والشام والحجاز والأندلس مقصدًا للعلم والتعلُّم. وفي رحلتنا هذه في تاريخ المكتبات العربية، سنؤرخ معها للتاريخ الحضاري والثقافي للعرب. فكلُّ ما بُني من أفكار وعلوم واختراعات وابتكارات خرجت أولًا من جدران مكتبة ما، اطلع فيها هذا الباحث أو ذاك على آخر ما توصل إليه السابقون من آراء، فأكمل مسيرتهم، وأضاف إلى إنتاجهم، ليتبلور اختراع جديد تُثرى به الحركة العلمية والإنسانية. فالمكتبة هي حاملة وعاء العلم، وخزانة الحياة، فإن كان العلم يُكتب في الكراس، فإنَّ هذا الكراس أو الكتاب يُحفظ في المكتبة، التي لا تتيح الفرصة لحفظه من الضياع فحسب، بل تمنح – أيضًا- فرصة نشره وتقديمه للآخر.
رحلةٌ في أعماق التاريخ
إنَّ البحث في المكتبات وتاريخها في المنطقة العربية يقودنا إلى بلاد الرافدين؛ مهد الكتابة والحروف الهجائية، ففيها ظهرت أول أبجدية عرفها التاريخ، ومنها برزت أوائل المكتبات، ومن أشهر مكتبات بلاد الرافدين: «مكتبة أشور بانيبال»، التي احتوت على ستين ألف (60,000) لوح فخاري من نينوى.
وما يميز المكتبات في تلك المرحلة ارتباطها الوثيق بأجهزة الدول، بل إنَّها قد وُجدت أساسًا لخدمة الجهاز الإداري في الدولة، إذ كانت وسيلة لحفظ الوثائق والمكاتبات الرسمية، ومساعدًا مهمًّا في تدوين الخراج والضرائب، وغيره مما يخدم الدولة.
وإذا انتقلنا إلى الإسكندرية لنرصد حركات المكتبات وتشكُّلها، فسنجد أول مكتبة بمعناها الحديث، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ الإسكندرية ظهرت بوصفها مدينة يونانية على أرض مصرية، بيد أنَّ هذه المدينة أبت إلا أن تكون مصرية قلبًا وقالبًا، فتمصرت وتمصر أجنبيها، واختيرت لتكون عاصمة الحضارة في العصر البطلمي. وقد حاول ملوك البطالمة إضفاء الملمح اليوناني على هذه المدينة، فأمر «بطليموس الأول سوتر» عام 330 ق.م بتأسيس مكتبة عظيمة، على غرار مكتبة أثينا، تحوي كتب العلم والمعرفة، وتنشر الحضارة اليونانية في المدينة، ولكن المكتبة الوليدة تفوقت على مكتبة أثينا، فأصبحت أكبر مكتبات العالم القديم وأكثرها شهرة، وكان يقصدها العلماء من كلِّ حدب وصوب، للاطلاع على ما فيها من مخطوطات نادرة، إذ احتوت المكتبة على سبعمئة ألف (700,000) لفافة بردية.
لم تكن مكتبة الإسكندرية مجرد قاعات لتخزين اللفافات البردية فحسب، بل ضمت قاعات للمحاضرات والتدريس، ويتضح أثر مكتبة الإسكندرية في خدمة الحضارة الإنسانية حينما نطالع العلماء الذين تعلموا في مكتبتها، ومنهم: «إقليدس» أبو الهندسة العلمية، «نيكوماخوس» عالم الحساب العلمي الأول، «وأرشميدس» عالم الفيزياء، «أريستوفانيس» البيزنطي. كما شهدت المكتبة الجدل اللاهوتي والفلسفي الكبير بين أنصار الوثنية ومعتنقي الديانة المسيحية، وفيها قُتلت شهيدة المعرفة «هيباتيا السكندرية» أول فيلسوفة مصرية.
وظلت مكتبة الإسكندرية تمارس مهامها التثقيفيَّة، حتى تعرضت لحريق ضخم، وذلك أثناء حرب الملكة كليوبترا مع يوليوس قيصر عام 48 ق.م، إذ أحرق يوليوس أكثر من مئة مركب بالقرب منها، فتضررت أو دمرت كليًّا.
وهناك من يذهب إلى أنَّ مكتبة الإسكندرية أُحرقت عام 391م، بأمر من الإمبراطور ثيودسيوس الأول، الذي رأى فيها امتدادًا للوثنية وفلسفتها. ويلقي آخرون تهمة حرق المكتبة وتدميرها على الفاتح الإسلامي عمرو بن العاص عام 640م، إلا أن التاريخ انتصف للقائد عمرو بن العاص، وبرأه مما نُسب إليه.
وعلى الرَّغم من هذا الجدل حول من أحرق مكتبة الإسكندرية، فإنَّ الحقيقة التي لا يمكن التنصل منها هي أنَّ هذه المكتبة أُحرقت، وضاع تراث إنساني هائل يشكل جزءًا لا يُستهان به من تاريخ البشرية.
لا تفوت قراءة: تاريخ المكتبات العربية
المكتبات العربية قبيل العصر العباسي
لم يعرف العرب قبل الإسلام المكتبة، على الرَّغم من علاقاتهم القوية بأمم لها باع في عالم المكتبات، مثل الفرس والروم؛ إذ كانت ثقافة العرب آنذاك ثقافة شفوية في المقام الأول. ومع مجيء الإسلام، ودعوته إلى التعلُّم، أخذ العرب يهتمون بالمعرفة، وما كان هذا ليتحقق دون كتاب يمكن الاطلاع عليه في مكتبة.
وفي العصر الأموي، بدأت إرهاصات ظهور المكتبات؛ إذ أسس «خالد بن زيد بن معاوية» الذي كان مهتمًا بالعلم والمعرفة والترجمة أول مكتبة عامة، هدفها الجوهري النقل والتعريب، وكانت بذرتها مكتبة جده معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
بيت الحكمة (بيت يجمع الكتب)
ورث العباسيون عن الأمويين فكرة المكتبات، كما أنَّهم تعرفوا على المكتبات والكتب في الإمبراطورية البيزنطية. لذا، استطاعوا تأسيس أول مكتبة عربية تؤدي دور المكتبة بمعناها الحديث.
«أعظم المكتبات العربية شأنًا وأقدمها زمانًا» هكذا وصفت مكتبة بيت الحكمة، كانت المكتبة فكرة حاضرة في عقول الخلفاء العباسيين منذ عهد الخليفة «أبي جعفر المنصور» حتى عصرها الذهبي في عهد الخليفة «المأمون». فقد خصص أبو جعفر المنصور بناية لتكون نواة لمكتبة بيت الحكمة، ثم توسع الرشيد في مخصصات المكتبة، حتى اكتمل بناؤها وتمامها في عهد الخليفة المأمون، فارتبط اسم المكتبة بالمأمون، على الرغم من أن فضل تأسيسها يعود للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.
ونحن نذهب إلى أنَّ ارتباط هذه المكتبة بالمأمون يعود في أساسه إلى الازدهار الكبير الذي شهدته في عهده، حيث كان يهتم بجلب الكتب لها من بلاد الروم، بل قد اشترط في صلح كان يقوم به الحصول على الكتب من البيزنطيين لإيداعها في المكتبة، كما حرص على ختم الكتب بختمه.
«المكتبة مؤسسة تعليمية متكاملة» لم تكن بيت الحكمة مجرد مكتبة فقط، بل ضمت قاعة للدرس والبحث، ومقرًّا للمناقشات والمناظرات، حتى وصفت بأنَّها «مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة عامة». وقد كان فيها أيضًا قسم خاص بالترجمة، ضم عددًا من المترجمين عن اللغات اللاتينية والإغريقية والسريانية، وكان للنصارى واليهود الحظ الأكبر من هذه الوظائف، ومن أبرز المترجمين «أبو عثمان الخزار»، و«عبد الله الصقلي».
كما اهتم العرب بعلوم المكتبات، فأوجدوا قسمًا للفهرسة داخل المكتبة، اهتم القائمون عليه بتصنيف الكتب، وتنظيمها، وترتيبها على أساس موضوعي، وكان الفهرس في مجلد خاص، ليسهل على رواد المكتبة تصفحه، وييسر على أمناء المكتبة الوصول. وكان هناك قسم خاص بالتأليف، ومن أشهر من تردد عليه «الكندي»، و«محمد بن موسى الخوارزمي». أما قسم التجليد، فقد كانت مهمته حفظ الكتب وتجليدها.
وكانت المكتبة تفتح أبوابها لمن يرغب بالاطلاع على كتبها، أما من يريد استعارة الكتاب، فيُسمح له بالاستعارة، مقابل رهن مالي أو بدون رهن. وحرصت المكتبة على راحة مرتاديها، فكانت هنالك ستائر تحميهم من برد الشتاء وحر الصيف. ومن أبرز من عمل بها يوحنا بن ماسويه، وعلات الوزان رئيس النساخين، والفضل بن نوبخت كبير المترجمين عن الفارسية.
ظلت مكتبة بيت الحكمة منارة عربية في سماء المعرفة والعلم، بيد أنَّه بوفاة الخليفة المأمون وتولي المعتصم عرش الخلافة العباسية بدأ ضياء المكتبة يخفت رويدًا رويدًا، حتى تضاءل ضياؤها منذ العصر العباسي الثاني.
وقد كانت نهاية المكتبة على يد سلطان المغول هولاكو، الذي دخل بغداد عام 1258م فاحتلها، وأنهى بذاك الخلافة العباسية، ودمر معها مكتبة بيت الحكمة، بعدما ظلت أكثر من ستة قرون تمارس مهامها، فأُحرقت المكتبة، وأُلقيت كتبها في نهر دجلة، تلك مأساة مكتبة قيل فيها إنها كانت منارة العلم في الشرق والغرب.
دار الحكمة (القاهرة)
لم يغب الخلفاء الفاطميون في القاهرة عن المشهد الثقافي العربي، إذ أسس الخليفة «الحاكم بأمر الله الفاطمي» دار الحكمة أو دار العلم عام 1005، والتي ضمت نحو مليون وستمئة ألف مجلد (1,600,000)، وتُعد دار الحكمة ثاني أكبر مكتبة عرفتها الحضارة الإسلامية، وعلى الرغم من أنَّ إنشاء هذه المكتبة يكمن خلفه دوافع نشر المذهب الشيعي، إلا أنها كانت تفتح أبوابها لكل القراء، من كل الملل والنحل والمذاهب. وظلت المكتبة مفتوحة حتى بعد سقوط الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الأيوبية، بيد أنَّه بسقوط مصر في قبضة العثمانيين عام 1517، انتقلت الكتب من القاهرة إلى مقر الخلافة العثمانية، ففرغت المكتبة من مضمونها.
مكتبة قرطبة: قرطبة أكثر بلاد الله كتبًا
لا يمكن الحديث عن المكتبات دون التطرق لمكتبات الأندلس، فقد حرص الأمويون في الأندلس على تأسيس حضارة، تكون امتدادًا للحضارة الإسلامية في الشرق، فكان في الأندلس نحو سبعين مكتبة، وكان للخليفة المستنصر وكلاء في كل البلاد الإسلامية، يجمعون له ما يصدر حديثًا من الكتب، وبلغ عدد الكتب في المكتبة نحو أربعمائة ألف (400,000) مجلد.
أُسست مكتبة قرطبة لتكون مركزًا للثقافة العربية في الأندلس، وبالغ الأمويون في عدد الكتب التي اقتنوها فيها، حتى قيل إن عدد فهارسها أربعة وأربعون فهرسًا، في كل فهرس خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط». أي أن عدد فهارس المكتبة الأموية كان مئتين وألفي (2200) ورقة فيها أسماء المؤلفات من الدواوين فقط.
وعلى غرار مكتبة بيت الحكمة، لم تكن مكتبة قرطبة مجرد قاعات لتخزين الكتب، بل كان فيها قسم للترجمة، ضم كبار مترجمي اللغات اللاتينية والإغريقية والإسبانية، وقسم للورَّاقين الذين يقع على عاتقهم نسخ الكتب وتزينيها وتجليدها، ومن هؤلاء اللغوي محمد بن أبي الحسين الفهري. أما قسم الفهرسة فكان يهتم بتصنيف الكتب وفق موضوعاتها، ويضع الفهرس في كتاب مستقل، متاح للقراء للتعرف على محتويات المكتبة، هذا بالإضافة إلى أقسام التدقيق والتأليف.
المكتبات الخاصة: لا خير في بيت أمير أو وزير ليس فيه مكتبة
هناك نوع آخر من المكتبات، لا يقل أهمية عن المكتبات العامة، ألا وهي المكتبات الخاصة، إذ كانت هذه المكتبات حاضرة بقوة في الحضارة العربية،
وقد كانت المكتبات الخاصة تحقق الوجاهة الاجتماعية لأصحابها، كما تدل على نزوع العرب -ولا سيما الأمراء والوزراء منهم- نحو القراءة واقتناء الكتب، ومن هذه المكتبات مكتبة «الفتح بن خاقان» الذي اشتُهر بأنَّه لا يترك الكتاب من يديه، ومكتبة «ابن العميد» الذي كان صاحب مكتبة ضحمة، والطبيب المصري «موفق الدين بن مطران» الذي كان في مكتبته عشرة آلاف (10,000) مجلد، وعمل فيها ثلاثة نساخ، ينسخون له ما يشاء من الكتب.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ معظم هذه المكتبات أُهديت للمساجد أو المكتبات العامة، وكان بعض أصحاب المكتبات يفتحونها للعامة، فكلُّ مكتبة خاصة تؤدي دور المكتبة العامة، بينما قصر بعض أصحابها خدماتها على أصدقائه من الباحثين والمهتمين، بل منهم من جعلها مكتبة خاصة قولًا وفعلًا، فكانت كتبها له ولحاشيته فقط.
مكتبات المساجد
جرت العادة أن يضع الناس نسخًا من القرآن الكريم في المساجد، وبمرور الوقت أهدى الناس مكتباتهم الخاصة إلى المساجد، حتى أضحت المساجد مراكز للتعلم والدرس، ومن أشهر هذه المساجد مسجد بني أمية في دمشق، والمسجد الأزهر في القاهرة، ومسجد المنصور في بغداد، ومسجد طليطلة، الذي كان يأتي إليه الطلاب المسلمون والنصارى من كل مكان حتى من إنجلترا وإسكتلندا، ومن أشهر مكتبات المساجد مكتبة مسجد مرو، إذ كانت فيه مكتبة العزيز، وهي مكتبة عزيز الدين أبي بكر عتي الزنجي، وبلغ عدد مجلداتها اثني عشر ألف (12,000) مجلد.
اقرأ أيضًا: منارات الأدب في العالم العربي
مكتبات المدارس
تتعدد أمثلة مكتبات المدارس في العالم العربي، فمنها مثلًا إلحاق السلطان محمود بن سبكتكين بجامعه الذي بناه مدرسة ملأَ بيوتها بالكتب. وكذلك فعل الوزير نظام الملك أحد أشهر وزراء السلاجقة، فقد أسس المدرسة النظامية وألحق بكل مدرسة منها مكتبة.
ومن أشهر مكتبات المدارس في بغداد على الإطلاق مكتبة المدرسة المستنصرية، حيث وصفت: بأنه لم يكن في الدنيا مثلها، وكانت من أعظم دور العلم في القرنين السابع والثامن من الهجرة، لا سيّما عندما كان ابن الفوطي خازنًا فيها، وقد بلغ عدد الكتب في هذه المكتبة ثمانين ألف مجلد.
ختامًا؛ إنَّ أسلافنا منذ ما يزيد عن ألف عام، وضعوا العالم العربي على خارطة المعرفة، من خلال العناية بالمكتبات، التي تضم أهم الكتب في مختلف صنوف المعرفة، بل إنَّ هذه المكتبات لم تكن مجرد مكان للاطلاع على الكتب، إذ كانت أيضًا مكانًا للتعلم والنقاش والجدل. ومن هنا، فإن أي نهضة عربية ممكنة لا بدَّ وأن تنطلق من العلم والمعرفة، اللذيْن تشكِّل المكتبةُ مستودعهما المركزي.