حسنًا، دعني أخبرك بشيء: هذه الرواية لن تدعكَ وشأنك، هنا ستعرف عبدالكريم الأديب، الكاتب، الحكّاء، الباحث والمحلّل كما أرى، أو كما وصف نفسه العربي الذي «تلبّستهُ» القهوة!
هذا الجهد، وهذا التعب ستجدهُ واضحًا جليًّا في كل صفحة وفي كل هامش، أحببت جدًا الهوامش، التي كانت بمثابة مفاتيح للبحث، وهنا بدأت الحيرة. اختلطت عندي الحقائق أولًا، فكنت أتوقف أحيانًا لأبحث أكثر. فمن يجهل التاريخ ومن لا يستفزّه الفضول سيختلط عليه الأمر كثيرًا في هذه الرواية، خاصةً بأنّها ليست عملًا أدبيًا فقط، بل مرجعًا غنيًا لتاريخ القهوة، حتى الستة أعوام هذه تبدو وكأنها قليلة!
أعرف بأنّ الكتابة مهما كانت لذيذة وممتعة إلا أنها عملٌ شاقٌ ومضنٍ، تمرّ الساعات سريعة، تفقد الشعور بالوقت، لا تعرف كيف أشرقت الشمس وساعتك للتوّ كانت تشير للحادية عشر مساءً!
«القهوةُ لا تُشربُ على عجل ..
القهوةُ أختُ الوقت ..
تُحتسى على مهل ..
القهوةُ صوتُ المذاق .. صوتُ الرائحة ..
القهوة تأمّلٌ وتغلغلٌ في النفسِ وفي الذكريات.»
طوال مدة قراءتي كنت أتخيّل شكل مراجعتي لها، وكنت أقول بأنّ من الصعب كتابة مراجعة لعمل بمثل هذا الحجم، وبمثل هذه الغزارة من المعلومات ما شاء الله. لكني أحب الحديث عن الشعور أو الأثر الذي تتركه الأعمال المميزة لديّ، كما أني لا أحبّ المبالغة في الإطراء، بل أحرص أن أضع نفسي مكانه وأتخيّل ما الذي يودّ الكاتب معرفته وسماعه من القُرّاء؟
لذا كانت هناك بعض الملاحظات التي أودّ ذكرها -مجملًا-: شخصيًا لم أحبّذ النصوص والعبارات المُستعارة من القرآن، ولم أتقبّل دور الهُدهد أيضًا. لم أشعر بالارتياح كلما صادفتني إحدى هذه النصوص وأرى لو تم الاستغناء عنها فلن يفقد العمل روعته، فلغة عبد الكريم هنا بليغة وحدها، تستطيع أن تلمس ثقافته واطّلاعه وسِعة مداركه وعلمه ما شاء الله. تشعر في البداية كما لو أنه يريد أن يستعرض لغته ومفرداته بكثرة التشبيهات، قد ترى بأنها متكلّفة قليلًا ربما، ثم لا تلبث أن تعتاد عليها، أعتقد بأن هذا الأسلوب وحّد مستوى كل فصل بحيث لا يصبح فصل أفضل أو أقل من الآخر، وكأنه يحافظ على وحدة النص بشكل كامل.
لا تفوت قراءة: دار صوفيا للنشر والتوزيع
ثم، ماذا عن تشبيه «جان جاك روسو» بموسى عليه السلام؟!!
ختامًا، أنت مخطئ حين تظن بأنك موعود بقراءة رواية عن القهوة فحسب، بل إنك ستشاهد فيلمًا ينتقل بك من مشهد إلى آخر، تنتقل في الزمان والمكان، ما بين أدبٍ عربي بأحداث وأماكن عربية في عدن ومكة والقاهرة، بين المماليك والسلاطين، وبين أدبٍ تركي، تتجوّل بداخله في أنحاء القصر، وتطلّ على السلطان سليمان القانوني وهو يجرب القهوة لأوّل مرة! بعدها يأخذك مشهدٌ آخر تغرق فيه وسط أوروبا، كما لو أنك تقرأ أدبًا إنجليزيًا أو فرنسيًا تتنقل فيه ما بين البندقية وفيينا وفرنسا ولندن ثم «البراسيل» وكأنك أمام أدب لاتيني يُقرأ في الصيف بلون البرتقال ثم أخيرًا أمريكا حين يتجلّى جشع الإنسان بجميع صوره وأشكاله.
تقترب القصة من نهايتها، وتشعر بأنّ المشاهد بدت مألوفة لديك، سيأخذك الكاتب إلى عالم الشركات التجارية الشهيرة أو كما يقول «الوحوش» وهنا ستشعر كما لو أنّ أحدهم قام بتنظيف العدسة قليلًا أو ربما رفع غشاوةً عن عينيك، فأنت تعرف القليل مما ذُكر أو ربما تعرف ما توصّل إليه لكنك لم تكن تعرف كيف بدأ كل هذا. هنا يتحدث عبد الكريم بلغة ثائرة تنضح وتظهر بين الصفحات لكنها جاءت جليّة أكثر في النهاية، وأكاد أجزم بأن رسالة العمل كلها في النهاية، وتلك خاتمة ممتازة بلا شكّ.
من الصعب جدًا بعد أن تنتهي من عمل كهذا قرأته على مهل تمامًا كما تحب ارتشاف قهوتك، دون أن تتلبسك القهوة كما فعلت بكاتبها، انتبه، قد يصيبك مسٌّ منها!
أعتذر عن التنبيه المتأخر! قراءة ممتعة.
وشكرًا كثيرًا لكاتبنا وأحسن الله إليه ونفع به وبثقافته.