السلطة العصبية:
إنَّ الأزمة العصبية والنفسية التي يمر بها البشر هي سمة عصرنا الحالي؛ فأمراضنا اليوم ليست بالدرجة الأولى أمراضًا بكتيرية أو فيروسية، بل هي أمراض احتشائية، أي أزمات نفسية وعصبية تؤثر في الإنسان من الداخل وتتسبب في تآكله واحتراقه، ومن هنا يمكننا بكل أريحية أن نطلق على المجتمع الحديث مجتمع الاحتراق النفسي أو مجتمع التآكل الداخلي.
ووفق الدراسات والتحليلات الحالية، فإنَّ أشهر الأمراض المسيطرة على العالم الحديث هي: الاكتئاب، ومتلازمة الإرهاق، والقلق، واضطراب نقص الانتباه، وفرط النشاط (ADHD)، واضطراب الشخصية الحدِّية (BPD). وهي أمراض غير التهابية، وإنما أمراض احتشائية وداخلية، يسببها فرط الإيجابية أو التسارع الذي يسير به العالم من حولنا.
فبسبب تسارع وتيرة التطور والعمل، والتماهي بين الأنا الفردية والمجتمع، سقطت الدفاعات المناعية النفسية للإنسان، مُنتجةً «مجتمع الإنجاز» أو مجتمع «العمل وتحقيق الذات»، يخدم فيه الجميع فكرة الإيجابية والتقدم فقط، وبذلك أصبحت ذات الإنسان الداخلية غير محسوبة في المجتمع؛ ما أفضى إلى قلقٍ من عدم تحقيق الذات والنجاح والإنجاز ينتج عنه اكتئاب.
المجتمع التأديبي:
يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو إلى أنَّ مجتمعنا هو مجتمع تأديبي، تنتشر فيه منشآت العزل والتأديب والسجون، أي هو مجتمع يرى أنَّ الذوات البشرية هي ذوات «قابلة للتشكُّل». بينما يذهب بيونج-شون هال إلى أنَّ المجتمع الحديث هو مجتمع الإنجاز، إذ يعامل الذوات البشرية على أنَّها «ذوات للإنجاز والتطور»، فقد حلت محل مؤسسات التأديب الكلاسيكية مؤسسات جديدة، متمثلة بصالة الألعاب الرياضية GYM، والأبراج العالية، والمكاتب، ومراكز التسوق الواسعة، وحسابات البنوك.
وفي هذا المجتمع، تزداد حدة الاكتئاب بسبب ضغط النمط المجتمعي على البشر الذين فشلوا في تحقيق ذواتهم وفق المعايير الاجتماعية، المتمحورة حول: النجاح، والتطور، والسفر، والتسوُّق، والأرقام البنكية. وينتج عن ذلك إرهاق وتعب مضاعف.
التأنِّي العميق والحياة النشطة:
من السمات الرئيسية لمجتمعنا «مجتمع الإيجابية المفرطة» تعدد المهام المفروضة مجتمعيًّا على الفرد، ما يزيد من الضغط النفسي والعصبي عليه، فالفرد في هذا المجتمع لا يختار طريقه أو أسلوب حياته، بل إنَّ المجتمع يفرض عليه طريقًا محددًا، وعدم اتباع هذا الطريق سيوقعه في منطقة النبذ الاجتماعي المفضية إلى حالة من التآكل النفسي.
كما يرى بيونج-شون هال أنَّ فرض المجتمع مهامَّ متنوعة ومتعددة على الفرد يؤدي إلى تكاثر مشتتات الانتباه، ما يجعل الإنسان أشبه بالحيوان البريِّ؛ فالحيوان البريُّ يحمي فريسته من السرقة، ويرعى شريكه الجنسي، ويركز على منطقته منعًا لاعتداء الدخلاء، ما يشتت انتباهه، ويمنعه من الهدوء والسكينة والتأمل وإعادة تفريغ عقله.
فمجتمعنا يبعد الإنسان عن الهدوء والتأمل، وتفريغ الطاقات السلبية التي تُزحم العقل بالأفكار الكثيرة، ما قد يفضي إلى اكتئاب مزمن، وإرهاق جسدي وعقلي، وتشتت انتباه، وفرط حركة في كل اتجاه دون خطة مدروسة، وهذا كلُّه يقلل من استفادة الإنسان من خبراته وحياته؛ فالتفكير أو التأمل هو «طائر الأحلام الذي يفقس بيضة الخبرة» كما يقول فالتر بنيامين والذي يبلور عند الإنسان القدرة على التعلُّم من الماضي وتدارك أخطائه، ما يزيد من خبرته ويطوِّره في المستقبل تطورًا يعود بالإفادة على المجتمع عمومًا.
لا تفوت قراءة: دليلك إلى أفضل الكتب المترجمة في علم النفس والعلاج النفسي في 2024 (قريبًا)
بيداغوجيا الرؤية
تفترض حياة التأمل بيداغوجيا أو أصولًا معينة في تكوين الإنسان تتحكَّم في رؤيته. فعلى سبيل المثال، يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن غاية التعلُّم هي «الثقافة النبيلة»، وهي ما يتوجب على المرء أن يمتلكه، فعلى المرء تعلُّم الرؤية والتفكير والتحدُّث والكتابة بشكل عام؛ ما يمهد له الطريق ليكون قادرًا على التركيز والتأمُّل في الأشياء، وهي بمثابة التدريب الأوليِّ على الروحانية والهدوء، ما يجعل الإنسان أقل عُرضة للتأثُّر بالمثيرات والمغريات، وأكثر قدرة على التحكم في النفس، وعدم الانجراف مع التَّيار.
وليس معنى هذا الانعزال عن الحياة، بل المقصود تعلُّم القدرة على التفكير والتحكُّم في النفس، ما يخفِّف من مرض الاستجابة الفورية أو التسرُّع لتقليد أي شيء لا فائدة منه.
مجتمع التعب: لا مكان للمُتعَبين
يصعب التعامل مع الشعور بالتعب والإرهاق في مجتمعات التسارع نحو الإنتاجية ومضاعفة العمل؛ فشعورك بالتعب أو الإرهاق يعني تخلفك عن السير وتأخُّرك في المنجزات المفروضة عليك، وهذا النمط من المجتمعات أفضى بالأفراد إلى اللجوء إلى استخدام المنشطات والمنبهات، التي ازداد الطلب عليها بصورة لافتة، بل للتأكد من ذلك يمكنك ملاحظة الإقبال على شرب القهوة، والإعلانات المتمحورة حولها، والمركزة على فكرة أنَّها منشطة وتساعدك في مواصلة عملك.
إنَّ مجتمعات الإنتاجية ومضاعفة العمل تحول البشر إلى آلات، وتمنعهم من إظهار مشاعرهم الحقيقية، كي لا يُنظر إليهم على أنَّهم متكاسلون ومختلفون عن الصورة النموذجية للإنسان العصري، ما يزيد من الشعور بالغضب الداخلي، والاكتئاب، وافتقاد حس التشاركية، فيخسر بذلك المجتمع فكرته التي قام عليها، وهي التشاركية والاجتماع، ويتحول إلى مجتمع غير قادر على بلورة التلاحم البشري النموذجي.
مجتمع الاحتراق النفسي
إنَّ مجتمعات الإنجاز أو المجتمعات الحديثة تنتج منتجًا نفسيًّا جديدًا، يجمع الأفكار التي تحدثنا عنها مسبقًا؛ وهو ذات الإنجاز أو الذات في مجتمع الإنجاز، ولهذه الذات خصوصية نفسية وعصبية تمايزها من سواها في المجتمعات «الأقل إفراطًا في الإيجابية»، فقد تظن الذات الإيجابية أو ذات الإنجاز أنها حرة ومنطلقة ولا يعيق حركتها شيء، ولكن ذلك غير حقيقي، فهي حرة في الاتجاه المرسوم لها فقط، فالحرية -عمومًا- لها ديالكتيك أو جدل خاص؛ فكلما وسِّع نطاقها وضُعت لها حدود، وبذلك لا تغدو حرية كاملة وإنما شعور آني، ينتهي بمجرد الاصطدام بالحدود الموضوعة؛ ففي مجتمعات الإفراط في الإيجابية لا يستطيع المرء اختيار التوقف عن التسارع والإنتاج وممارسة النشاطات الاستهلاكية المعتادة وإلا أصبح متأخرًا عن مسيرة الحداثة وغير مواكب للعصر.
وتختلف ذات الإنجاز عن غيرها؛ فمثلًا لا تقوم بأعمالها تجاه نفسها والمجتمع الذي تعيش فيه بدافع الواجب والضمير والأخلاق، ولا تعترف بالطاعة والعدالة والوفاء والالتزام؛ وإنما تسير متَّخذة في اعتبارها حريتها ومتعتها وميولها التي تتحكَّم فيها، فالعمل من أجل المتعة وليس لأنه واجب الجميع تجاه الجميع. وتشعر تلك الذات دومًا بقلَّة في الإشباع فتريد المزيد، الفردانية بالطبع لا تُشبع، ولا تشعر النفس بالشبع ولا يكتفي الجسم إلا بطرف ثالث يُشبع نفسه وذاته، فلا يُشبع المرء نفسه بنفسه ولا تستطيع نرجسيته مهما بلغت من التضخُّم إشباعه.
فينتج عن مجتمعات الإنجاز ذات غير خاضعة لأي شيء سوى سلطة الإنتاج والعمل والاستهلاك، لا يحكمها سوى علاقات الإنتاج الرأسمالية، فتبدأ الذات في إلغاء وجودها لأنها تفقد معناها ووجودها لصالح ذات جديدة، فيما يشبه الاحتراق الداخلي، تستغل فيه الذات نفسها لأجل المزيد من الإنتاج مما يزيد من أمراضها النفسية وتعنيفها لنفسها على قلة المجهود المبذول الذي لا يجعلها في المكان الذي تطمح له، ففي مجتمعات الإيجابية المُفرطة ليس هناك مكان للقدرات أو الاكتفاء أو الراحة وإنما لا حدود للقدرات ولا وقت للراحة.
وأخيرًا، يمكننا تركيز وصف مجتمعات الإيجابية المُفرطة في المجتمعات الرأسمالية الحدية التي لا تعترف بالراحة ولا بمفهوم الحياة الطيبة الهانئة والتشاركية ولا بالشعور بالتعب؛ وإنما تعيد تشكيل مفهوم الحياة لمفهوم جديد يعتمد على الاستهلاك والعمل والإنتاج والترفيه المزعوم الذي هو بالأساس استهلاكي يخدم رأسمالية تغير شكل الحياة، مما يوحي باستمرارية الحياة لأجل غير مسمى، فيظل المرء قلقًا دومًا من الموت، وراغبًا فقط في الحياة، أي التنفس والعمل والإنتاج، وليس العيش والمشاركة، مما يجرِّد الحياة ويعريها من معناها ويجعلها بمثابة شكل مسطَّح وهوس بأن يكون المرء على قيد الحياة فقط، ينتج وتكون به صحة جيدة ليستمتع باستهلاك نقوده التي حصل عليها دون أن يضع للحياة أي معنى أو غاية كبرى.