عن المأدبة
والقصةُ حافلةٌ بتفاصيلَ عن رسومِ اليونانِ في الولائم، ومنْ يخصّونه بالدعوةِ دون غيرِه، وعاداتِهم على مائدةِ الطعام، ويعظّمُها في قلوبِ القارئين لقاءُ الأفذاذ من أهلِ الفكرِ والنظر، فهمْ يرون فيها الأديبَ والشاعرَ جنبًا إلى السياسيّ والطبيبِ والفيلسوفِ والتلميذ.
المأدبة صنف فني وأدبيّ فريد
وقد يُحبَّب إلى القارئِ المثقفِ الكتبُ التي تمتزجُ فيها الفلسفةُ بالأدب، والجدُّ بالهزل، والرأيُ بضدِّه، والفكرةُ بأختِها، وحديثُ الطعامِ بأحاديثِ البحثِ والمباحثِة، فإنَّ ذلك أقربُ إلى عيشِه وأدنى من عقلِه، فهو لا يستغرقُ في الفكرِ وحدَه، بل يخوض في غمارِ الحياةِ عاملًا وفاعلًا.
بين صفحات المأدبة
وكان المألوفُ لدى المجتمعين على المأدبةِ أن يستهلَّ الحديثَ منْ يجلسُ على الميسرة، وهو الأديب (فيدرس) الذي أطلقَ لسانَه في تأليه الحبِّ وإكبارِ مآثرِه، وختمَ رأيَه بقولِه:
وأعقب كلامَه قولُ (بوزنياس) الذي قيّد الحبَّ المطلقَ:
وقد طالَ بيانُه واستطرد مستفيضًا:
وكان من رأي الطبيبِ (أريكسماخوس) أنَّ الحبَّ متغللٌ في كلِّ ما يتصل بالكونِ، وحقيقتُه اتحادُ المحبِّ والمحبوب كما تلتقي الأنغامُ المتنافرة فتخلقُ لحنًا خالدًا باجتماعها، ولخّص فكرتَه مختتمًا:
ولا يخفى ما في عبارته من دلالاتٍ على اقترانِ الحبِّ بالأخلاقِ والفضائل!
ثم تلاه مذهبُ الشاعرِ الكوميدي (أرستوفانز)، وقد اشتُهر ذلك المذهبُ في منْ بعده من الكتَبة، فهو الذي يرى شطرَ الإنسانِ الأولِ شطرين عقابًا من الآلهةِ حتى جاءَ زمانٌ يهفو فيه نصفٌ إلى نصفِه الذي انشطرَ عنه ويصبو إليه مشوقًا:
وجاء كلامُه كلُّه على هذه الشاكلة حتى قال:
واستقرَّ القولُ عند صاحبِ المأدبةِ الشاعرِ التراجيدي (أجاثون)، وقد أبانَ عن المبادئِ المرعيةِ قبل الغوصِ في حديثِ الحبِّ، وأوضحَ النهجَ الصحيحَ في المديح، وهو أنْ يعيّن طبيعةَ الممدوحِ ثم يُعرّجَ على آثارِه النافعة، فقال:
حتى هاج، وهو شاعر:
وهنا يُسدَلُ الستارُ على آراءِ هؤلاء حتى يبدأ فصلٌ في الفكرِ والبيانِ يباينُ أفكارَهم، ويختلفُ عن أنظارِهم كلَّ الاختلاف، فترمق الأبصارُ إلى منشئه ويُرعونَ السمعَ إلى أقوالِه، ذلك هو (سقراط)، يخلبُ ألبابَهم بسحرِ كلماتِه ويستحوذُ على آذانهم بدقةِ تعبيرِه للأفكارِ وحسنِ غوصِه إلى المعاني، على ما عهدوا فيه من لطفِ التأتي إلى المرامي بالقياسِ المنطقي، حيث المقدماتُ تقودُ إلى النتائج، وذلك على لسانِ حكيمةٍ تُدعى (ديوتيما) حتى يخلصَ إلى قولِه:
ويمضي في كلامِه على هذا المنوال حتى فرغ قائلًا:
وامتدّ ذلك السمرُ حتى أقبلَ عليهم السياسيُّ العسكريُّ (ألقبيادس) مترنحًا من السكرِ، فانهال كالصاعقةِ يمدحُ سقراط ويثني عليه ويعددُ صفاتِه ومآثرَه قبل أن ينفضَّ المجلسُ على جعجعةٍ يسمعونَها على أعتابِ الباب، فنامَ من القومِ من نام، وغادرَ منهم من غادر، وسهرَ منهم من لا تغفو عينُه ويطيبُ له الحديث!
ولا نغادرَ (المأدبة) قبل أن نعرّف بمترجِمها الأستاذ وليم الميري المولود سنة ١٩٢٤م، وهو صحفيٌّ ومترجمٌ من الأقباط، عاش صدرَ حياتِه في مصر، ضاقتْ به الأرضُ في زمنِ الثورة المصريّة، فأزمع الرحيلَ إلى أمريكا وقضى الشطرَ الثانيَ مهجريًّا، وتوفي عام ٢٠١٣م.
وأشيرُ آخرًا أنَّ الترجمةَ لا تخلو من أخطاءَ لغويةٍ ومُعَاظلةٍ في الكلام، ولكنّه قليلٌ في كثيرٍ جيّد.